إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

معدن الإستقامة مجابة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • معدن الإستقامة مجابة

    عنوان الموضوع : معدن الإستقامة مجابة
    مقدم من طرف منتديات أميرات


    معدن الإستقامة
    ]قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي اْلأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُـوا وَأَنْتُمُ اْلأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ اْلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُـمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِيـنَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَـدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَـوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُــرُونَ[ (آل عمران/137-143)
    يتفاوت بنو البشر في ذواتهم وطبائعهم طبقاً لتفاوت معادنهم، ومثلهم في ذلك مثل الأرض التي منها الطيب والخبيث ومنها الخصب والعقيم، فهذه تنبت الطيب والنافع، وتلك لا يخرج منها إلاّ النكد الضار، وقد قال عز اسمه بهذا الصدد: ]وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَيَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً[ (الاعراف/58). وكذلك هم الناس والأمم، فمنهم من يمتاز بالطيبة والأصالة، ومنهم من معدنه خبيث هجين ورخوٌ لا أساس له ولا استقرار..
    وكان من الطبيعي أن حوادث الحياة ومستجداتها وطوارئها وما تجره من ظروف وأحوال شاقة ومحن وآلام- وهي بمجموعها تمثل المحك والامتحان الكاشف لحقيقة معدن وشخصية هذا الإنسان وتلك الأمة لا تزيد المعدن الطيب إلاّ طيبةً وصلابةً ومتانةً، بينما يكاد المعدن الخبيث الضعيف يتلاشى ويضمحل وينصهر، ذائباً في بوتقة ملمات الدهر؛ لأن من طبعه الميل مع كل ريح، والتهاوي لأدنى تحدٍ.
    وقد تجد إنساناً ذا مظهر بسيط جداً في أداء ما عليه من فرائض وواجبات دينية ضمن الأجواء التقليدية، ولكنك قد تكتشف معدنه الطيب والأصيل حينما تواجهه بوسط يخالف معتقداته ومبادئه؛ بل لعلك ستراه ملتزماً كل الالتزام ومتمسكاً بكل ما يمليه عليه دينه، فيجاهد في سبيل الله لا تأخذه في ذلك لومة لائم، فضلاً عن إقامته الرائعة لصلاته وصيامه وسائر واجباته الدينية الأخرى.
    إن معدن الإنسان العظيم يتجلى لدى الشدائد والملمات وتواتر الفتن والضغوط التي تخلقها ظروف الحياة.. تماماً كما الذهب الذي يتجلى نقاؤه وخلوصه بتعريضه للنار، بينما تتلاشى المعادن الواطئة وتتبدل وتفقد ما كان يعتبر خواص ذاتية لها في السابق.
    معدن الإنسان ليس مادياً
    إذا كان الذهب ذهباً بذاته، وأنه لم يخلق طبيعته المرغوبة والمتميزة بنفسه، فإن هذا الواقع لا ينطبق على الإنسان عموماً؛ فهو لا يخلق بمعدن أصيل طيب أو بآخر هجين خبيث، رغم صحة ما ورد عن رسولنا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الشريف القائل
    : "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الإسلام خيارهم في الجاهلية، وشرارهم في الإسلام شرارهم في الجاهلية". () ورغم صحة تأثير العوامل الوراثية وطبيعة البيئة والتربية والنظم الحياتية المحيطة بالإنسان على طبيعة صياغة شخصيته، فهذه كلها عوامل مؤثرة وقد يصل مستوى تأثيرها حداً كبيراً جداً في بعض الأحيان إلاّ أن القرار النهائي يبقى بيد الإنسان دون سواه، حيث يبقى بإمكانه أن يجعل من معدنه ذهباً، وإن شاء جعله معدناً عديم القيمة، فالأمر رهن يديه كما قال ربنا سبحانه وتعالى: ]وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى[. (النجم/39) وهذا السعي الإنساني هو المصدر الحقيقي لوجود القوة أو الضعف، والإيمان أو النفاق، والحيوية أو الخمول، والتطور أو التخلف.. حول الإنسان وحول الأمة اللذين بيدهما قرار ارتقاء سُلّم التسامي، كما بيدهما قرار السقوط والتسافل والانحطاط الى الحضيض.
    ومن هذا المنطلق؛ كان محرماً على ابن آدم القنوط من رحمة الله واليأس من روحه المقدس، كأن يحدّث نفسه أو تحدّثه نفسه بأنه مادام قد ولد في بيئة فاسدة أو فقيرة أو ضعيفة أو متخلفة تعيس الحظ، ولا فرصة له في التطور، ولا جدوى من بذل سعيه لايجاد التغيير وإصلاح ما حوله من واقع متراجع.. بل الواجب الأول الذي ينبغي له تنفيذه هو الإيمان بوجود رب حكيم وكريم وغني وحميد، حريٌّ أن يتوكل العبد عليه، فيمضي في ارتقاء سلم الجد والاجتهاد والعمل والمثابرة؛ لأن قرار الارتقاء هذا جعله الله رهن إرادته، فكان له أن يصوغ من ذاته معدناً طيباً نقياً ثابتاً جديراً بأن يفتح الله له أبواب الحياة الحقيقية في الدنيا والآخرة. وقد قال تبارك اسمه في آية قرآية كريمة: ]مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ[ (آل عمران/179) أي أن حكمته العظيمة وإرادته الجبارة شاءت أن يكون ابن آدم حرّاً مختاراً في انتخاب الحياة والمعدن، رغم الصورة والواقع الأوليين اللذين يولد عليهما وفيهما.
    قصة تأريخية حكيمة
    نقرأ في قصة النبي نوح عليه السلام مع ابنه الذي أبى الاستماع الى قول الحق والركوب في السفينة، نقرأ أن الله سبحانه وتعالى قد حكم على هذا الولد الكافر العاق بالهلاك نظراً لما صدر منه من موقفٍ معاند في أخريات حياته وفي تلك الساعات الحاسمة، وهو الموقف الذي كشف عن حقيقة معدنه، رغم كون أبيه من الأنبياء وأولي العزم، إلاّ أن عمله غير الصالح حوّله الى لعنة تاريخية، لأنه كان بإمكانه اختيار طريق الفلاح والنجاة من الغرق في الدنيا والعذاب الأبدي في الآخرة
    .
    ومن خلال شيء من التفكير في قوله تبارك وتعالى: ]لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ[ (التين/4-6) نعرف إن عملية الخلق خاصة بإرادة الله وحدها. ولكن الاستفادة من نعمة الخلق هذه بوسيلة الإيمان والعمل الصالح رهن بإرادة الإنسان، فهو حينما يخلق، يخلق بفطرة نقية طيبة مثالية، ثم إن طبيعته تبدأ في المسير في طريقين؛ الأول هو طريق التسامي والتكامل، وهو الطريق المنسجم مع فطرته النـزيهة ووجدانه وصبغته التي صبغه الله بها. أما الطريق الثاني فهو طريق التسافل والانحطاط بسبب العوامل المضادة لهذه الفطرة، كالشهوات والأهواء وسورات الغضب وسوء التربية وضحالة البيئة وعوامل التاريخ والسياسة والاقتصاد وغير ذلك مما طبيعته التأثير في جوهر الإنسان وتبديل معدنه الأصيل الى معدن زائف. فهو إن لم يسلك سبيل الهدى والرشاد والعمل الصالح وما تمليه عليه الفطرة النـزيهة، كان من المحكوم عليه بالانجراف والانحطاط إلى سبيل أسفل سافلين الذي أشارت إليه الآية المتقدمة الذكر. ولكنه إن قاوم العوامل السلبية كان قد أنقذ نفسه فسما وارتقى سلّم التكامل الإنساني، حتى كان بإمكانه أن يسبق الملائكة.
    إذن؛ فإن بمستطاع معدني ومعدنك أن يصبحا معدنين أصليين وخالصين بما نعلنه من إرادة خيّرة ونقوم به من عمل صالح، وهما الوسيلتان اللتان يأمر العقل والإيمان بالاستفادة منهما.
    إن الله قد حكم على الإنسان وقضى بأن يعرّض للامتحان حتى آخر لحظة من لحظات حياته، لأن حياة الإنسان شيء خلقه الله، وهو ذو إرادة مطلقة في التصرف فيها كيف يشاء، ثم إن الشيطان وجنوده لا ينفكون عن ملاحقة ابن آدم حتى تلك اللحظة الرهيبة التي يفارق عندها الحياة. وها هي النفس الأمارة بالسوء لا يروي غليلها إلاّ وقوع الإنسان الدائم وتعثره، وعليه فإن تعريض الإنسان للامتحان هو الأمر الوحيد والكفيل بكشف معدنه؛ على الأقل كشفه لنفسه ومعرفة من أي الأنواع هو.
    ومن هنا؛ فليس محموداً لابن آدم القنوط من رحمة الله واليأس من روحه
    فيما لو تنبه إلى واقعه وقد كان من المسرفين على أنفسهم، لأن هذا القنوط يزيده إسرافاً ويغرقه في الكفر ويجرعه كأس الدمار حتى الثمالة
    .
    كما ليس محموداً له أيضاً أن يحدث نفسه فيما بقي من له من عمربأن سفينته قد رست على شاطيء الأمان، باعتبار أن الله قد امتحنه وابتلاه بما فيه الكفاية، فلا داعٍ لابتلاء جديد. كلاّ؛ فالأمر ليس بأُمنيته ورغبته، لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يحدد وقت وكيفية الابتلاء دون غيره. وما يدري ابن آدم أن ضلاله قد يكون بوسوسة شيطانية واحدة ينهار لها في آخر لحظة من حياته، وما يدريه أن الله قد يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر بداعي قيامه بعمل صالح يتصوره بسيطاً وهو عند الله كبير. ولهذا ورد في المأثور من الدعاء عن أبي الحسن الأول عليه السلام: "اللهم إني أعوذ بك من العديلة عند الموت"() أي الانحراف في آخر لحظة، كما ورد أيضاً: "ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً"() نظراً لأن المؤمن مسؤول عن أن يظل في سعيه وجدّه واجتهاده ومثابرته؛ مستقيماً على القيام بالعمل الصالح حتى آخر رمق في حياته، كي يضمن حكم الله بحسن العاقبة عليه، وهي بلا شك أهم ما يمكن أن يحصل عليه الإنسان، لضمان المزيد من الرفعة والسمو الى الدرجات الأعلى ما أمكن.
    الأسوة الحسنة في رسول الله صلى الله عليه وآله
    ولقد بلغ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله بذاته وجده واجتهاده وسيرته المباركة مبلغاً جعله حريّاً بسيادة الأنبياء والرسل جميعاً، وقد علا وسما ما تعجز حتى الملائكة عن تصوره؛ ففي ليلة المعراج الى السماء اخترق نبينا الأعظم حجب النور وبحاره وسرادقات العرش حتى وصل موقفاً لم يعد جبرائيل عليه السلام
    وهو المرافق له في معراجه يتجرأ على تخطيه، ولكن النبي دنا ودنا حتى كان قاب قوسين أو أدنى. ولكن رغم هذا الاقتراب النبوي الشديد من العظمة والجبروت الإلهي، إلا أنه ظل ممتلئاً رهبةً وخشية من العلي الأعلى في تلكم اللحظات التي هي أسعد اللحظات وأعظمها بهاءً وروعة في حياة الإنسان على الإطلاق. فيا ترى ما بالنا نحن وما عليه من الإسراف على أنفسنا؟!
    سبيل الإستقامة والثبات
    إن العامل الوحيد الذي يساعدنا في الحفاظ على خلوص معدننا ونزاهة جوهره هو التنبه الدائم والحذر الشديد والواعي من مكر الشيطان وجنوده من الجن والإنس حتى آخر لحظة نتنفّس فيها، وهو يعني الإستقامة في مسيرة التقوى والخشية من الله عز وجل حتى يأتينا النداء الإلهي الحاسم
    : ]يَآ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً[ (الفجر/27-28).
    قد لا يكون خافياً أن الإنسان عرضةً للإصابة بنوعين من الأمراض؛ النوع الأول، هو الأمراض المادية التي تصيب الجسد، حيث جعل الله سبحانه وتعالى الإحساس بها دليلاً عليها، حتى أضحى هذا الإحساس نعمة إلهية تساعد المريض على الإسراع في المعالجة. أما النوع الثاني، وهو الأخطر والأفتك، فهو الأمراض النفسية والمعنوية. ولعل هذا النوع يعد من أكبر المصائب التي تلم بالإنسان، إذ أن للشيطان اليد الطولى في وجودها، وهي مثل التكبر والغرور والحسد والبخل والحرص، لأنها تحجب المرء عن الإحساس والشعور بسائر الأمراض النفسية الأخرى. وإن ما يجعل الإنسان يحفظ جوهره، هو ثباته واستقامته في حياته وحذره الدائم من وساوس الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، وتعزيزه لإرادته وتحديه للفتن والبلاء وملمات الدهر.
    الإعداد والاستعداد
    إن المطلوب من الإنسان أن يضع نفسه في حالة ترويض دائمة، ليزداد صلابةً وأصالةً
    . أما أن يعمد الى ترويض نفسه في ساعة الإمتحان والفتنة، فهذا ما لن يفيده شيئاً، مثله في ذلك مثل طالب المدرسة الذي يتوجب عليه مطالعة درسه واستيعابه وحفظه قبل أوان الامتحان النهائي، لأنه لن يعود لدى الامتحان بإمكانه استيعاب العلم أو حفظ المعلومات.
    ولقد تضمن القرآن الكريم العديد من المفاهيم والتوجيهات والبصائر الواضحة ما لو تم استيعابها واستلهامها لخلق روح التصدي والمقاومة ولحافظ على أصالة المعدن الإنساني ولزاد في نقائه وخلوصه.
    ومن جملة تلكم المفاهيم والبصائر في هذا المجال أخذ العبرة والاتعاظ بالتاريخ الإنساني ومجرياته وأحداثه؛ ومنها قول الله جل جلاله: ]قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي اْلأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ[. فالمراد بالسنة حسب معناها الظاهر الآثار المتبقية من تاريخ الأمم السالفة، وكيف آلت مصائر الشعوب المنحرفة. فالله سبحانه وتعالى يؤكد ضرورة البحث والنظر والتدقيق في ذلك المآل الذي انتهت إليه الأمم المكذبة لتحاشي الوقوع في المصير الأسود نفسه.
    والذي أراه أن دراسة التاريخ وسبر أغواره ضرورة حضارية ودينية وثقافية؛ بل إن كل الضرورات قد تجمعت وتكرست في هذه الدراسة والبحث في التاريخ الإنساني، وها هو القرآن الكريم قد أعطانا عصارة التاريخ وبيّن لنا محطاته الاستراتيجية ومنعطفاته المهمة، ونحن بوسعنا الرجوع الى التفاصيل التي تعج بها كتب التاريخ والروايات الـواردة عـن أئمـة أهل البيـت عليهـم الصـلاة والسـلام لاستيعاب المزيد من العبـر التاريخيــة.
    الزهراء عليها السلام نموذج المعدن الطاهر
    لقد اتسمت حياة سيدتنا فاطمة الزهراء عليها السلام بالصمود والثبات والاستقامة على الحق، مما جعل سيرتها الذاتية قدوة واسوة، لا سيما بعد وفاة أبيها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله والتحاقه بالرفيق الأعلى
    . فلقد انهالت عليها المصائب والآلام والمحن والمظالم، ولكنها واجهت كل ذلك بالصبر والتحمل حتى فارقت الحياة مظلومة مهظومة. وقد روي عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام أنه قال: "نحن حجة الله على خلقه وأُمّنا فاطمة عليها السلام حجة الله علينا".() وهذا الحديث الشريف يعكس حقيقة كبرى، إذ أن كل ما اجتمع وتراكم على قلب الزهراء عليها السلام من مصائب وهموم قد توزع وتفرق على أبنائها الأئمة المعصومين عليهم الصلاة والسلام. ولقد تحدت سيدة النساء الظروف الحالكة والمصاعب الأكيدة، ما لم يكن باستطاعة أقوى الرجال تحملها وتحديها.
    وعلى ذلك؛ فإن الأجدر بنا - نحن الذين نأمل شفاعة الزهراء عليها السلام- أن ندرس حياتها من هذه الزاوية؛ زاوية التحدي والصلابة ونقاء المعدن والاستقامة على الحق.
    إن إنساناً وأمة يبتني وجودهما ويقوم كيانهما على تضحيات أهل البيت عليهم السلام ودمائهم ودماء الشهداء المقتدين بهم، لابد لهما من أن يكونا صامدين مقاومين يتحديان العالم بطواغيته وجبابرته، وإنّ ]هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ[ .
    التراجع يعني الردّة..
    يخطأ كثيراً هذا الذي يأسف ويندم على ما قام به من عمل في سبيل الله، مهما كانت أسباب الندم، فالله تعالى ينهى عنه ويعتبره خروجاً عن الإيمان، وهو القائل سبحانه: ]وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ اْلأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ[. فلا يقولنّ أحد: لِمَ جاهدتُ؟ ولأجل من ضحيت؟ وعلامَ هاجرتُ؟ فهذا خطأ وكفر بنعمة الإيمان التي رزق الله، لأن الإنسان مسؤول عن القيام بواجبه في هذا المجال على أحسن وجه ممكن، وليس مسؤولاً عن الانتصار أو جني الثمار. ثم هل كان خيراً لك لو أنك أضعت حياتك وشبابك وطاقاتك في اللهو والمتاهات وإشباع الشهوات الرخيصة في الحانات ومراكز الفساد الاخلاقي؟!
    إن الأولى بك أن تشكر الله أبداً على ما أنعم عليك من الإيمان والهدى والعمل في سبيله، لأن مجرد التشكيك في ذلك يعقبه التمرد على فرائض الله، وبالتالي سيحبط عملك فتكون من الخاسرين الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا. فإن كنت تعاني المصاعب؛ فعدوك وعدو الله بدوره يعاني كما تُعاني، ولكنك ينبغي أن ترجو من الله. وقد قال ربنا العظيم: ]إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ اْلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ[، وقال أيضاً: ]وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً[ (النساء/104). فهذه هي سنّة الصراع في الحياة، ولا يجدر بك أن تتصور حلول الأذى والقهر والهزيمة والمعاناة بعدوك فحسب، وأن شيئاً من ذلك لن يمسك أو يصل إليك، لأن السنّة الحياتية في الصراع اقتضت أن تكون الدنيا يوم لك ويوم عليك ]وَتِلْكَ اْلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ[.
    ومن هنا؛ كانت النوازل والمحن والشدائد التي يقع فيها الإنسان ويتعرض لها عبارة عن عملية تطهير لما كان يرتكبه من ذنوب وخطايا، فكان من المفترض به التسليم لأمر الله وقضائه والتعامل مع طبيعة تعرضه للمحن من منظار إيجابي وإيماني ينتهي به إلى الصبر والصمود والاستقامة.
    إن المؤمن حينما يدرك حقيقة الحياة وفلسفتها، ويدرك أنه ماثل أمام قانون الموت والفناء، ويدرك حقيقة الحكمة الإلهية بتعريض ابن آدم للمحن والفتن، حينما يدرك ذلك كله سترتفع عنه حجب الخوف والتردد، ولن يعتبر إذ ذاك المشاكل والصعاب والمحن عائقاً في طريقه، وهو سيمضي غير مبالٍ بكل ما يلاقيه ويصادفه، لا سيما وأن الله تبارك اسمه سوف يسدد خطاه ويقوي عزيمته.
    وإدراك الإنسان لكل هذه الحقائق التي أوضحناها من شأنه دفعه الى صقل ذاته وإظهار أصالة معدنه ونقائه وقوته، وذلك بمواصلة مسيرته في العمل والجد والجهاد والمثابرة، ابتغاء مرضاة الله ونيل العزة والكرامة في الدنيا والآخرة.
    إن من مسؤوليات الإنسان الذاتية التي لا يمكنه تبرير التقاعس والتكاسل عن أدائها بسبب من الأسباب هي أن يدرك هذه الحقائق كي يطور شخصه ويصقل جوهره ومعدنه، وذلك ما لا يكون دون التوجه الى بصائر القرآن الكريم وهضمها واستيعابها والإلمام بها. ولعل البصائر التي حوتها الآيات المتقدمة من سورة آل عمران تمثل برنامجاً أساسياً لتطوير المعدن الإنساني ولتحدي الصعوبات والفتن بحول الله وقوته.
    نسأله سبحانه وتعالى أن يثبت أقدامنا، وأن يعيننا على أنفسنا، وأن يصلح كل عيب فيها، لنكون من الصادقين في البأساء والضراء، وأن يجعلنا من الصابرين ويلحقنا بعباده الصالحين محمدٍ وآله الهداة الميامين والحمد لله رب العالمين.



    الإستقامة عزة ورفعة
    ترى ما هي الجدوى من الإستمرار في الكفاح والجهاد على الرغم من أن الظروف جميعها تعاكسنا، ولماذا نبذل الجهود الكبيرة، ولماذا هذا العطاء الذي يبدو لا نهاية له؟ أوَليس من العبث أن يتعب المؤمنون أنفسهم، ويبلون شبابهم في الدعوة الى الله تبارك وتعالى، والتفرّغ في سبيله، والمثابرة في طلب العلم.. وهم يرون أن أعمالهم تذهب في الظاهر سدىً؟ فالكفار والمستكبرون لا يتركون المؤمنين ولو للحظة واحدة يعملون ضدّهم، فهم يلاحقونهم في كلّ مكان، ويطاردونهم أينما ذهبوا.... فلماذا إذنالاستمرار في الجهاد والدعوة الى الرسالة الإسلامية مادام الأمر كذلك؟
    إن هذه القائمة الطويلة من التساؤلات تمثّل أفكاراً سلبية تبثّها أجهزة الأعلام الظاهرة منها والخفية هنا وهناك، ولا سيّما في هذه الظروف التي يعيش فيها المسلمون الصعاب، وتتراكم السلبيات، وتتواصل الهزائم
    .
    الأيام دول بين الناس
    إنّ التأريخ، كل التأريخ، لم يكن في يوم من الأيام خالصاً صافياً بشكل دائم للمؤمنين، وكذلك الحال بالنسبة الى غير المؤمنين، فالله سبحانه وتعالى يداول الأيام بين الناس، وهذه المداولة تمثّل في الدنيا سنّة إلهية أبدية، فالدنيا يومان؛ يوم لنا، ويوم علينا، وعندما يحلّ يوم الشدّة والضعف والانكسار نجد أن هذه الأفكار السلبية تنتشر بسرعة عجيبة
    .
    الإجابات الشافية في القرآن
    ولأنّ القرآن الكريم هو علاج لكلّ الأمراض، وإجابة على كلّ الأسئلة التي أثيرت أو من الممكن أن تثار في المستقبل بشأن عمل المؤمنين، وبالصراع الحاد القائم بين جبهة الايمان وجبهة الكفر والضلال، فاننا نجد إجابات شافية عن كل تلك التساؤلات وبالتحديد في سورة هود، هذه السورة التي نستطيع أن نصفها بأنها سورة الاستقامة والجهاد المتواصل رغم الظروف المعاكسة
    .
    إننا عندما نقرأ هذه السورة المباركة من بدايتها الى نهايتها، فاننا نطالع فيها صوراً مشرقة من جهاد وكفاح الأنبياء عليهم السلام، وأتباعهم في أكثر الظروف شدة وتأزّماً.
    الاستقامة أمر إلهي
    وفي نهاية هذه السورة نجد خلاصة للأفكار التي جاءت فيها، فلنحاول معاً أن نستعرض هذه الأفكار الواحدة تلو الأخرى فيما يلي
    :
    الفكرة التي يتضمّنها قوله تعالى: ]فَاسْتَقِمْ كَمَآ اُمِرْتَ[ (هود/112)، فالله تعالى يخاطب نبيّه صلى الله عليه وآله بأنّه مأمور مادام قد أسلم وآمن وخضع لرب العزة، ولأنه مأمور فلابد من أن يتّبع الأوامر بدون زيادة أو نقصان، وبدون جدل ونقاش. وما دام الله رحيماً بالانسان، ولا يأمره بشيء إلاّ إذا كان من مصلحته، فلماذا تريد أيها الإنسان أن تستنبط الأفكار من نفسك، أوَلا تؤمن بأن بصائر القرآن، ورؤى الوحي، وشرائع الدين صحيحة؟ فاستقم إذن كما أمرت لأن الاستقامة أمر إلهي، ولا يهمّ في هذا المجال ماذا سيحدث في المستقبل، وماذا ستكون النتائج، بل عليك أن تستقيم.
    ثم يقول تعالى موضحاً ان الأمر بالاستقامة لا يقتصر على الرسول صلى الله عليه وآله، بل يشمل أتباعه أيضاً: ]فَاسْتَقِمْ كَمَآ اُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ[ (هود/112) ؛ أي إن القائد عندما يحمل الراية في ظروف الشدة والهزيمة، وعند الصعوبات والمشاكل، فان هذه الراية التي يركزها هذا القائد سوف تكون سبباً لالتحاق المنهزمين مرّة أخرى.
    وعلى هذا فان الله سبحانه وتعالى يصرّح بأن أحد أهم النتائج الايجابية للاستقامة توبة المنهزمين، وعودتهم الى الخط الرسالي.
    الركون الى الظالمين
    ثم يأمر سبحانه المؤمنين بعدم الطغيان قائلاً
    : ]وَلاَ تَطْغَوْا[ (هود/112)؛ أي لا تكونوا أيها المؤمنون، يا من أنفقتم أوقاتاً ثمينة من حياتكم، واُبليتم شبابكم وزهرة حياتكم في سبيل الرسالة، لا تكونوا وقوداً للحروب التي يثيرها الطغاة. فنحن إذا ما تركنا معارضة الظالمين جانباً، فربّما سنصبح أداة من الأدوات التي يستخدمها الطغاة.
    ويؤكد جل وعلا على هذا المعنى قائلاً: ]وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ[ (هود/113)
    فأنتم أيها الرساليون إذا تركتم الجهاد وعزّته وكرامته فسوف تضطرّون الى أن تركنوا الى الذين ظلموا، وبالتالي فانكم سوف تحتاجون في هذه الحالة الى حماية، وأن تضطرّوا الى التوسّل بهذا النظام أو ذاك لتطلبوا منهم هذه الحماية. فالانسان الذي لا يمتلك عزة من جهاده، فلابد من أن يبحث عن العزّة عند الظالمين.
    والقرآن الكريم يحذّرنا من هذا السلوك موضحاً أننا لو أيّدنا الظالم فان عاقبتنا سوف لن تكون بأحسن منه، حيث عذاب الله ولعنة الناس، دون أن يكون لنا أيّ نصير وشفيع.
    قال الله تعالى: ]وَمَا لَكُم مِن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ[ (هود/113)
    فعلى الإنسان أن لا يقول في يوم القيامة أنه كان مجاهداً وعاملاً، فانّ مثل هذه السوابق لا يمكن أن تشفع له بعد أن ركن الى الظالم، وأصبح ذيلاً له، ودائراً في فلكه. فالله تبارك وتعالى لا ينظر الى سوابق الإنسان، بل يحكم عليه حسب الوضع الذي هو عليه الآن.
    وبناء على ذلك فانّ الاستقامة تمثّل ضرورة لا غنى للانسان المجاهد عنها، لأن من لا يستقيم لابدّ أن يصبح طاغياً أو أن يخضع للطغاة، ولخط الظالمين ويركن إليهم، وحينئذ سيكون مصيره مصير الظالمين، ثم لكي يستقيم الإنسان، ويستمر على الجهاد فعليه أن يتّصل بروح الإيمان.
    الصلاة وقود الاستقامة
    والصلاة التي يقول عنها تعالى
    : ]وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ[ (هود/114) هي أفضل وسيلة لاستمداد القوة المعنوية عندما يفتقر الإنسان الى القوة المادّية. وأنا لا أستطيع أن أتصوّر مجاهداً لا يستأنس بالصلاة. فهي بالنسبة إليه الركن الركين الذي يأوي إليه، والكهف الحصين الذي يحميه من عاديات الدهر والوساوس الشيطانية. فإذا ما صادف وان اسودّت الدنيا في عينك، وتراكمت المشاكل عليك، وتواصلت الهزائم، فعليك أن تفرّ الى الله الذي تجده في الصلاة. فعندما تصلي تكون قريباً من رب العزة، ويكون تعالى قريباً منك، يربت على كتفك بيد حنانه ورأفته.
    ثم يقول تعالى: ]وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ[ (هود/114)
    فعلى الانسان المؤمن أن يلتزم بالصلاة في النهار والليل؛ فاذا ما هجمت عليه الهواجس، وأخذ يفكّر في المشاكل والصعاب التي يواجهها، فعليه أن ينهض من فراشه، ويقف أمام رب العالمين، وحينئذ سيجد برد عفو الله وسكينته، وروح الاطمئنان تغمر قلبه.
    الصبر والنظرة البعيدة
    ويأمر تعالى نبيّه صلى الله عليه وآله والمؤمنين بالصبر قائلاً
    : ]وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُـحْسِنِينَ[ (هود/115).
    فليس من الصحيح أن نقول إن أعمال المجاهدين تذهب عبثاً، وأنهم ينفخون في رماد، وأنّ جهودهم هي مجرّد هواء في شبك. كلا؛ فاننا إذا عملنا ولو ذرة واحدة، فاننا سنجد هذا العمل أمامنا يوم القيامة ليشفع لنا. فالذي يحفظ الوديعة هو رب العزة الذي لا يمكن أن تضيع عنده الودائع.
    فعلينا أن نصبر، وأن لا نستعجل الأمور، لأن هذا العالم الذي نعيش فيه هو عالم الزمن، كما أنّ الخالق تعالى عندما خلق السماوات والأرض فانه لم يخلقهما في لحظة واحدة، رغم أنه كان بامكانه أن يقول كن فيكون ليخلق السماوات والأرضين، ولكنّه عز وجل شاء أن يخلقهما في ستّة أيام، لأنه ركّب هذا الكون على أساس الزمن.
    وعلى هذا فانّ علينا أن نصبر خصوصاً وإننا نريد أن نغيّر عالماً بأكمله، وهذا التغيير لا يمكن أن يتمّ من خلال حركة بسيطة. فنحن الآن نعيش مخاض الحضارة الإسلامية، والحضارة تعني تحقيق الوحدة بين الشعوب، والوصول الى الرقي التكنلوجيّ، والتقدم الزراعي والصناعي والاقتصادي. ومن المعلوم أن ليس من السهولة بمكان تحقيق هذه الأهداف الضخمة.
    ومع ذلك فاننا نمتلك تاريخاً حضارياً عريقاً ومليئاً بالعطاء، ونمتلك برنامجاً يتمثّل في القرآن الكريم الذي هو هدىً ونور وبصائر. وكلّ هذه الامتيازات التي نتمتّع بها من شأنها أن تختصر لنا الزمن، وتجعلنا نبلـغ المستوى الحضاري المنشود في فترة قياسية، قد تكون أقصر بكثير مـن تلك الفترة التي مرّ بها الغربيون للوصول الى ما بلغوه الآن، ولكن علينا أن نأخذ بنظر الاعتبار أن علينا أن نبذل الجهود المتواصلة والمكثّفة في هذا المجـال، وحينئذ فاننا سوف لا نبلغ ما بلغه الغربيون فحسب وإنما سنتقدم عليهم باذن الله.
    التفكير المستقبلي
    وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال
    : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "اغزوا تورثوا أبناءكم مجداً"؛() أي إن علينا أن لا نفكّر في أن نحصل على العزة العاجلة من وراء جهادنا، بل علينا أن نبذل لكي ينتفع الجيل القادم من عطائنا. فنحن نسعى من أجلهم في الحقيقة لكي يورثوا منّا المنعة والعزة، ويكونوا أقوياء أمام الأعداء، ولا يكونوا أدوات في أيديهم يستخدمونهم كمادّة للاختبار. فهناك الكثير من الحروب التي أجّجها المستكبرون كان هدفهم من ورائها تجربة أسلحتهم، كما حدث في الحرب التي أثاروها بين العراق وايران، وبين العراق والكويت.. فقد كانوا يحقّقون عدة أهداف من وراء إثارة هذه الحروب؛ الهدف الأول هو أنهم كانوا يبيعون الأسلحة ويصرّفونها، والهدف الثاني أنهم يعملون على تأخير تطوّر حضارتنا، والهدف الثالث يتمثل في إشفاء غيضهم الداخلي من المسلمين، والهدف الرابع إختبار الاسلحة ومن ضمنها الأسلحة الكيمياوية...
    ومن أجل أن نحول دون أن يصبح أبناؤنا أدوات طيّعة بيد هؤلاء المستكبرين، فلابد لنا من أن نجاهد، لأنّ جهادنا إنما هو من أجل تحقيق مستقبل مزدهر مشرق لأولادنا.
    الاسلام مرهون بالجهاد
    وعلينا أن نعلم في هذا المجال أن الانجازات والمكاسب الكبرى التي حقّقها الاسلام لحد الآن، انما هي مرهونة ببقائها ووجودها لجهاد المجاهدين
    . والى هذا المعنى يشير تعالى في قوله: ]فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ اُولُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَآ اُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ[ (هود/116)
    فالذين ينهون عن الفساد يكنّ الله تعالى لهم أعظم الحبّ لحكمة يعلمها، وهي أن تبقى في الأمة بقية تدافع عنها، وعن القيم الرسالية المقدّسة.
    ثم يشير تعالى الى النتيجة النهائية للجهاد من خلال قوله: ]إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ[؛ اي إن فائدة جهادنا وإستقامتنا تتمثل في أنّ البلاء سوف لا يشملها في حالة نزوله، بل إنّ هذا البلاء سوف ينزل على المفسدين فحسب، ومن سكت عنهم، ورضي عن ممارساتهم.



    كيف نستقيم في ظروف الإبتلاء؟
    قد يكون الانسان في وضع تضحى جميع شؤونه متسقة ومنتظمة حسبما يحب ويرتضي، بحيث ينمو ويترعرع في بيئة مفعمة بعبق الايمان واريج المحبة والاخاء الايماني.
    وقد يعيش المرء حياة تصطحبها القسوة والابتلاء، بحيث تحيطه كافة صور المحنة والعذاب. فبالتأكيد ان كلا الوضعين المختلفين لا يمكنهما ان يتساويان على مستوى التجربة والأجر الذي وعد الله تعالى به المؤمنين يوم القيامة.
    الفتنة سنة الهية
    من مراجعة لآيات الذكر الحكيم نكتشف احدى سنن الباري عز وجل، وهي سنة الفتنة لكافة أبناء البشر الذين يعيشون على هذه البسيطة؛ بل لا مجال لافتراض صورة ما لحياة أحد أبناء البشر وقد خالطتها النشوة المطلقة والرضا اللامتناهي
    ..
    ]أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ[(العنكبوت/2)
    بل من الخطأ أن يتصور المرء أن مجرد اعتقاده القلبي، واقراره بالربوبية الالهية، وايمانه بأركان الدين تكفي ان تحيل حياة المؤمن الموحد الى روضة بهيجة في هذه الدنيا. ان حقيقة الايمان بالشيء تقتضي اثباته في الواقع الخارجي، وجلب المصداقية المفترضة للدلالة عليه.
    لذا كانت سنة التاريخ والأمم والحضارات السابقة والحاضرة كذلك الافتتان لاثبات دعوى الايمان. قال الله تعالى:]وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[(العنكبوت/3)
    فلو افترضنا قبول منطق الادعاء الصرف بالايمان والتوحيد، لتساوت الأمم كما يتساوى أبناء البشر جميعاً في الاعتقاد والأجر والمراتب؛ بل ولإنتفى القبح والحسن، والنار والجنة يوم القيامة. فما أكثر الأمم التي قبلت دعوات أنبياءها ورسلها، ورفضت ما أُمرت به من اصلاح وتغيير ؟
    وفي هذا الخضم سقطت أمم واستقامت أخرى على الفتنة، وتميز الكاذب عن الصادق
    ..
    ]فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[
    فتبقى الحجة البالغة التي لا يمكن المرء أن يفر منها يوم الحساب. فـ (العلم) الصادق و (العلم) الكاذب، تكشفه (الفتنة) التي تصيب الناس كافة.
    وكلما ازداد مستوى الاعتقاد ومراتبه، كلما ازداد مستوى الافتتان ومراتبه كذلك. وهذا ما يفسر جملة من الأحاديث الشريفة التي تؤكد على هذه الحقيقة، منها قول الإمام الكاظم عليه السلام قال: " إنما المؤمن بمنـزلة كفّة الميزان، كلّما زيد في ايمانه زيد في بلائه".()ذلك لأنه بقدر حجم الادعاء يكون حجم الافتتان الإلهي. وهذا بدوره لطف إلهي، وذلك لازدياد مراتب الأجر والجزاء في العقبى، وهي ثمرة طبيعية يحصل عليها الانسان المؤمن.
    حدّثنا بنان بن بشر، وابن أبي خالد قالا: سمعنا قيساً يقول سمعنا خبّاباً يقول: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وهو متوسّد برده في ظلّ الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدّة، فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمّر وجهه فقال: إن كان من كان قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشقّ باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء الى حضر موت لا يخاف إلاّ الله عزّ وجل والذئب على غنمه. ()
    وعن رسول الله صلى الله عليه وآله مرَّ بعمّار وأهله وهم يعذّبون في الله، فقال: أبشروا آل عمّار فإن موعدكم الجنة . ()
    الفتن متعددة
    وبالطبع يختلف الابتلاء بأختلاف المؤمنين، وقد يكون الابتلاء من نوعه الجسدي أو النفسي
    - الذي لا يقل عن الأول - وقد يجتمعا معاً.
    الشاب المؤمن يفتتن بغريزته الجنسية وشره الشباب، والتاجر بمعاملات التجارة، والمجاهد في سبيل الله والقائد كذلك، والامام المعصوم عليه السلام أيضاً لا يخرج عن دائرة الافتتان الالهي، رغم قربه ومنـزلته عند المولى تعالى.
    نقل أحد الأخوة المؤمنين من داخل سجون النظام الصدامي في العراق قائلاً: كنا في زنزانة مع جمع من الرجال المؤمنين، الى أن أخرجونا الى ساحة السجن، ثم جاءوا ببنت أحد الرجال المؤمنين الذين اصطف معنا وبعد أن يأسوا من تعذيبه لانتزاع الاعتراف منه، ادخلواها علينا عارية ! وساقوا بها أمام الحضور يمنة ويسرة، ثم قربوها إلى أبيها، وهددوه بشتى الافعال بها إن لم يعترف !! ولكن البنت المؤمنة هذه توجهت إلى أبيها قائلة: أبي؛ هذا في سبيل الاسلام شيء قليل.
    فهذا مشهداً واحد من التعذيب النفسي الذي يلحق بالمؤمنين المجاهدين، وإذا قلبنا أرشيف السجون التي تكتض في أغلب بلدان العالم الاسلامي بالشباب المؤمن، لشاهدنا صوراً مذهلة توضح فداحة القسوة التي يرتكبها الحكام المستبدين ضد رجال الحق ودعاة الاسلام. كذلك عظمة وشموخ صبر هؤلاء الأفذاذ من أجل تحكيم القيم التي يعتقدون بها على أرض الله المترامية الأطراف.
    إن هذه الصور البطولية الرائعة لو قارنّاها بصور أخرى تقع هنا وهناك، وهي تحكي عن تساقط أدعياء الايمان في وحل الرذيلة - كما تتساقط أوراق الخريف - مقابل شهوة آنية أو حفنة نقود أو مستمسك رسمي من دولة ما -كما يجري على البعض ممن ينتمي الى بلاد الاسلام وشريعة المسلمين والمقيم في البلاد الاوربية - ليرى فداحة المفارقة الكبرى بين تلك الصور وهذه !
    كربلاء؛ الفتنة.. الاستقامة
    لقد كان أئمة الهدى المعصومين عليهم السلام وسيرتهم الذاتية خير صورة مباركة ومقدسة، ومثالاً حياً ومتحركاً أمام كافة الأجيال
    .
    إن موقف الإمام الحسين الشهيد عليه السلام في رمضاء كربلاء، وموقف إبنه الإمام زين العابدين عليه السلام وشقيقته الطاهرة الصديقة الصغرى زينب عليها السلام يحكي كذلك قدسية الاعتقاد والايمان بالله، وعظمة استرخاص الغالي والنفيس، واستقبال البلاء والفتنة برحابة صدر في سبيل الله.
    لنقرأ معاً هذه الرواية عن الإمام زين العابدين عليه السلام، والتي قال فيها: "إنه لما أصابنا بالطفّ ما أصابنا، وقتل أبي عليه السلام، وقتل من كان معه من ولده وإخوته وساير أهله، وحملت حرمه ونساؤه على الأقتاب يراد بنا الكوفة، فجعلت أنظر إليهم صرعى، ولم يواروا، فيعظم ذلك في صدري، ويشتدّ لما أرى منهم قلقي فكادت نفسي تخرج، وتبيّنت ذلك منّي عمّتي زينب بنت عليّ الكبرى، فقالت مالي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي؟ فقلت: وكيف لا أجزع ولا أهلع، وقد أرى سيّدي وإخوتي وعمومتي وولد عمّي وأهلي مصرَّعين بدمائهم مرمّلين بالعراء، مسلبين لا يكفنون ولا يوارون، ولا يعرّج عليهم أحد، ولا يقربهم بشر، كأنهم أهل بيت من الديلم والخزر". ()
    وهنا تتجسّد فداحة الموقف الذي تحمّله أهل بيت الحسين عليه السلام في رمضاء كربلاء، بحيث لم يرحم الأعداء حتى الأجساد الطاهرة؛ بل تعمّدوا في تفريقها تنكيلاً بالحسين عليه السلام وأصحابه وأهل بيته!
    وهنا يتساءل المرء أنه كيف تقع هذه النوازل والفتن على الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته ونساءه وأطفاله، بل يتجرء أرذل خلق الله (شمر بن ذي الجوشن) في الجلوس على صدر سبط الرسول الحسين عليه السلام ليحتز رأسه الشريف، مع العلم أن الإمام عليه السلام له مرتبة ومنزلة عظيمة عند الله ورسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لم يغير الله سبحانه ما كتب على الحسين عليه السلام من النصر المادي لصالح أهل الحق وأتباعه ؟!
    إن الإمام الحسين عليه السلام هو الذي اختار طريق الحق وآمن وسار على ما آمن به وانتهى به الأمر إلى واقعة كربلاء. لقد كان من اليسير جدا على الله سبحانه أن يدفع البلاء عن أتباع الحق في يوم عاشوراء، ويبيد أهل الباطل عن بكرة أبيهم بلحظات وثوان. إلاّ أن مشيئة الله اقتضت كيفما شاءت إرادة الحسين عليه السلام، وأن الله يعطي لعبده ما يريد ويجازيه بقدر ما يريد من تقرب الى المولى عز وجل، فأضحى جسد الحسين عليه السلام وأهل بيته خير قربانٍ في هذا الطريق..
    ثم تقول الرواية: "لا يجزعنّك ما ترى فوالله إنّ ذلك لعهد من رسول الله صلى الله عليه وآله الى جدّك وأبيك وعمّك، ولقد أخذ الله ميثاق اُناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات أنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرّحة وينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء عليه السلام لا يدرس أثره، ولا يعفو رسمه، على كرور الليالي والأيام وليجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلاّ ظهوراً وأمره إلاّ علواً". ()
    وبالطبع أن تصبح كربلاء قبلة الزائرين وكعبة الثوار والعاشقين، هو أمر طبيعي ونتيجة بديهية لما حمل الإمام الحسين عليه السلام من مسؤولية الأداء العظيم عبر الذبح المقدس له ولأصحابه وأهل بيته. فهذه سنة الله في الحياة أن ترتفع معالم الحق وأصحاب الحق، وتعلوا قباب العظام والهداة، لتكون شاهداً حياً أمام مرأى العالم. وفي المقابل تنطمس آثار وقبور أعداء الله، أمثال يزيد ومعاوية وبني أمية وبني العباس لتكون شاهداً حياً أيضاً على زيف الباطل. فهذه الثمرة يجنيها طلاب الحق في الدنيا، أما في الآخرة فهو أجلّ وأعظم من هذا كله.
    وتضيف الرواية على لسان مولانا الإمام زين العابدين عليه السلام: "فقلت: وما هذا العهد وما هذا الخبر؟ فقالت: حدَّثتني أمّ أيمن أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله زار منزل فاطمة عليها السلام في يوم من الأيام، فعملت له حريرة صلى الله عليهما، وأتاه علي عليه السلام بطبق فيه تمر ثمَّ قالت أم أيمن: فأتيتهم بعسّ فيه لبن وزبد، فأكل رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهما السلام من تلك الحريرة، وشرب رسول الله صلى الله عليه وآله وشربوا من ذلك اللبن، ثمَّ أكل وأكلوا من ذلك التمر والزبد، ثم غسل رسول الله صلى الله عليه وآله يده وعليّ عليه السلام يصبّ عليه الماء". ()
    كما يبدوا أنها جلسة عائلية يشاهد فيها حالة السرور، ولكن سرعان ما تتحول الى جلسة حزن واعتصار الألم لما سوف ينقل فيها من صور الافتتان والمصائب التي سوف تنزل على أهل بيت النبوة عليهم السلام.
    فتضيف الرواية: "فلما فرغ من غسل يده مسح وجهه ثم نظر إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام نظراً عرفنا فيه السّرور في وجهه، ثم رمق بطرفه نحو السماء ملياً ثم وجه وجهه نحو القبلة وبسط يديه ودعا، ثم خرَّ ساجداً، وهو ينشج فأطال النشوج وعلا نحيبه وجرت دموعه، ثم رفع رأسه وأطرق إلى الأرض ودموعه تقطر كأنها صوب المطر. فحزنت فاطمة وعلي والحسن والحسين، وحزنت معهم لما رأٍينا من رسول الله صلى الله عليه وآله، وهبناه أن نسأله حتى إذا طال ذلك قال له علي، وقالت له فاطمة: ما يبكيك يا رسول الله؛ لا أبكى الله عينيك، وقد أقرح قلوبنا ما نرى من حالك؟!
    فقال: يا أخي سررت بكم سروراً ما سررت مثله قط، وإني لأنظر إليكم وأحمد الله على نعمته عليَّ فيكم، إذ هبط عليَّ جبرئيل فقال: يا محمد؛ إن الله تبارك وتعالى اطلع على ما في نفسك وعرف سرورك بأخيك وابنتك وسبطيك، فأكمل لك النعمة وهنّأك العطية بأن جعلهم وذرياتهم ومحبيهم وشيعتهم معك في الجنة، لا يفرق بينك وبينهم. يحبّون كما تحبى، ويعطون كما تعطى، حتى ترضى وفوق الرضا. على بلوى كثيرة تنالهم في الدنيا ومكاره تصيبهم بأيدي أناس ينتحلون ملتك ويزعمون أنهم من أمتك، براء من الله ومنك خبطاً خبطاً، وقتلاً قتلاً. شتى مصارعهم، نائية قبورهم، خيرة من الله لهم ولك فيهم. فاحمد الله جل وعز على خيرته وارض بقضائه. فحمدت الله ورضيت بقضائه بما اختاره لكم.. " ()
    هكذا نصب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام مأتماً قبل وقوع فاجعة كربلاء العظيمة، بحيث يحضر فيها صاحب الدور العظيم الحسين عليه السلام وأمه وأبيه وأخيه في المأتم.
    وهنا تأتي البشارة الكبرى لشيعة الحسين عليه السلام ومحبيه الذين ساروا على نهجه عليه السلام بأن يكون (الرضى) من الله تعالى يوم القيامة في قبالة تحمل العناء والعذاب والوصب في سبيله.
    أجل؛ هذا المشهد البطولي لأهل بيت النبوة عليهم السلام في أرض كربلاء، يحكي لنا قوة وصدق الايمان، وعظمة الأداء والبذل والاسترخاص.. ويبين عاقبة مسيرة هؤلاء الأفذاذ الحسنة، وفي المقابل عاقبة أعدائهم طلاب الهوى والدنيا السيئة..
    ]أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ * مَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لأَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[. (العنكبوت/4-6)


    الإعداد سبيل الإستقامة
    قضية الإعداد وإحراز المقدمة تعتبر إحدى المواضيع المهمة التي تدرس في علم أصول الفقه، وذلك بالنظر إلى أنّ المكلّف يعجز عن تحقيق وأداء الفرائض الملقاة على عاتقه دون إحراز مقدماتها والإعداد لها. وعليه؛ كان من المنطقي لعلماء الأصول والفقه بحث هذا الموضوع لينتهوا عبره الى نتائج عملية ملموسة، تجعل من الإفتاء مهمّة يسيرة إلى حدٍ بعيد.
    ولقد عالجت الآيات القرآنية العديدة هذه القضية، لتمثل بدورها نوراً يستضيء العلماء والمفتون به، من قبيل قول الله تبارك وتعالى: ]وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى[ (النجم/39-40) إذ السعي والحركة من شأنه إيصال المكلَّف الى تحقيق ما يصبو إليه، دون الجمود والخنوع. وقوله سبحانه: ]وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً[ (التوبة/46) نظراً الى أنّ الإعداد أهم بدرجات من المواجهة ذاتها، لأن ساعة المواجهة هي ساعة الصراع، وأيّ عاقل ورشيد لا يدخل الصراع دون أن يهيء نفسه لتلك الساعة. وقوله تعالى: ]وَأَعِدُّوا لَهُم مَااسْتَطَعْتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللـه وَعَدُوَّكُمْ وءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاتَعْلَمُونَهُمُ اللـه يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللـه يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاتُظْلَمُونَ[ (الانفال/60) فإذا كان الهدف محدّداً فلابـدّ من الإعداد له، لإحراز الكثير من الإنجازات، ولتجنب الكثير من أشكال العقبات أو الهزائم..
    والفترة التي تستغرقها عملية الإعداد والإيتاء بمقدمة الواجب، هذه الفترة بالذات ما تدعى بالانتظار، إذ الإنتظار لايعني جلوس المرء في بيته متوقعاً أن يحقّق الله له تطلعاته وآماله وأهدافه، إنّما الانتظار يعني سعي الإنسان وتحركه باتجاه إعداد ما ينتظره وما يريد تحقيقه. وإنطلاقاً من هذه القناعة، نقول إنّ قول الله تعالى: ]مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللـه عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا [ (الاحزاب/23) يشير ويؤكد أنّ المنتظر هو الساعي والمتحرك والمعدّ نفسه ومهيّؤها ليوم المواجهة ولحظة الانطلاق.
    هذه الآية الكريمة نزلت بحق الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.
    فقد روي عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، حديث طويل مع يهودي، قال فيه: ولقد كنت عاهدت الله تعالى ورسوله أنا وعمي حمزة وأخي جعفر وابن عمي عبيدة على أمر وفينا به لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وآله، فتقدمني أصحابي وتخلفت بعدهم لما أراد الله تعالى، فأنزل الله فينا: ]مِنَ المؤمِنينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَليه فَمِنْهُم مَنْ قَضَى نَحْبَه وَمِنْهُمْ مَن يَنْتَظِر وَمَا بَدَّلوا تَبْديلا[حمزة وجعفر وعبيدة، وأنا والله المنتظر يا أخا اليهود، وما بدلت تبديلا". ()
    وبهذا بقي الإمام عليّ ينتظر الشهادة على أحرّ من الجمر، ولن يبدل أو يخلف في انتظاره أو يتراجع عمّا يعتقده ويؤمن به، ولو بمقدار أنملة واحدة.
    فهل كان الإمام علي عليه السلام ينتظر الشهادة وهو قابع في بيته؟! كلاّ وألف كلاّ؛ فقد كان الإمام أمير المؤمنين لا تفوته فائتة في إثبات ولهه وحبه وعشقه الذي لا يوصف لله ولرسوله وللمؤمنين الصادقين. فهو الأول في كل معركة، والأول في نصرة المظلومين ودعم الفقراء وتوفير الرخاء والسعادة لأبناء دينه، حتى تلك المعارك التي كان يقودها بنفسه، كان ينتظر الشهادة في سوح الوغى، حتى أنّه تنبّه الى رجل من أصحابه في معركة صفين كان يريد حمايته من حيث لا يعلم، فقال له عليه السلام: "ويحك أمن أهل السماء تحرسني أم من أهل الأرض؟ قال: لا؛ بل من أهل الأرض. قال: إن أهل الأرض لا يستطيعون بي شيئاً إلاّ بإذن الله عز وجل من السماء، فارجع، فرجع"() وهذا يعني فيما يعني أنّ أمير المؤمنين كان ينتظر الشهادة بشجاعته وبطولاته ومواقفه الرافضة قولاً وعملاً لكل الانحرافات.
    ونحن أيضاً ننتظر ظهور الإمام الحجة بن الحسن عجل الله فرجه، ولكن كيف ينبغي أن يكون إنتظارنا؟ هل ننتظره من بيوتنا؟ أم ننتظره بالكلام المجرّد؟
    الفريضة الشرعية والعقلية تؤكد علينا أن الانتظار لا يعني سوى الإعداد والتحرك والانطلاق نحو تأدية الواجبات حتى آخر لحظة من لحظات عمرنا
    . فالانتظار مفهوم أساسي من مفاهيم مدرسة أهل البيت عليهم السلام، ومن اللازم أن نختزل أبعاده وحقائقه، وأن نحوّله الى قيمة حياتية وسيرة جهادية في حاضر الأمة ومستقبلها.
    وليس مفهوم الاستقامة ببعيد عن مفهوم الانتظار، فمن يريد أن يكون فوق السطح، لا يمكنه القفز إليه مرّة واحدة. فالصعود المفاجئ يلحقه سقوط مفاجئ أيضاً، إنما عليه الصعود مرحلة مرحلة. والأمة التي تريد أن تستقيم على الحق وتنتصر له، وتريد أن تكون أمة مجاهدة لها وزنها وثقلها الإيجابي في التأريخ، لابـدّ لها من السعي لتحقيق تلك المفردات التي بدورها تحقق الاستقامة. وبتعبير آخر؛ علينا أن نتساءل عن طبيعة الاستقامة؟ وكيف يمكن ان تستقيم الأمة؟ وما هي الثقافة التي لابـدّ للأمة من التسلّح بها حتى تستقيم على الطريق؟ وكيف يمكننا تحقيق وتكريس هذه الثقافة في أنفسنا وفي أمتنا؟
    وفي معرض الإجابة على هذه التساؤلات المثيرة، أعددت على عجل ثلاث إجابات تمثّلها ثلاث مفردات أساسية؛ فهي بمثابة المراحل أو الدرجات التي ينبغي أن نعرج عبرها لنصل الى قمّة الاستقامة
    .
    المفردة الأولى: الأمل، والنظرة التفاؤلية الى المستقبل؛ باعتبار أن التشاؤم واليأس والقنوط أحد جنود الشيطان، ولا يمكن لهذا الأخير بأيّ حال من الأحوال أن يبـثّ ما فيه الخير لابن آدم، فهو - الشيطان - الذي يوسوس في الصدور. ومن هنا كان لزاماً على المسلمين تحديد موقفهم الاعتقادي والعملي من قضية الإحباط، مع تكريس إيمانهم بأن طريق ذات الشوكة هو طريقهم، وبالتالي فإن من الطبيعي للغاية أن تكون الصعاب والتضحيات والتحديات هي المعلم الأوضح في سيرتهم وكدحهم. وهذه هي صفحات التأريخ بين أيدينا وأمام نواظرنا، ومن الممكن لنا التدقيق فيها وتحليلها بوعي، ولن ننتهي إلى نتيجة سوى أنّ الأمل والتحدّي وتقديم التضحيات ونبذ اليأس والإحباط من شأنه النهوض بمستوى الأمة وتوجيه مسيرتها نحو الأفضل، تماماً كما هو واضح من خلال مطالعة السيرة الذاتية والاجتماعية لأهل البيت عليهم السلام وأولادهم الطاهرين الذين حملوا راية الاستقامة والعدل ورفعوا هذه الراية في كل مكان، بدءً بالعراق والجزيرة العربية ومروراً ببلاد المشرق الإسلامي، وعوداً الى بلاد المغرب الاسلامي. ونحن رأينا ولا نزال نرى أنّ الثورات والانتفاضات إنّما تقدح شرارتها باسم الدين وباسم أبطاله العظام وفي مقدمتهم أهل البيت عليهم السلام، ولعلّ كل قطرة من دماء الشهداء الذين حافظوا على الدين أصبحت أساساً للمساجد وبيوت اللـه التي هي في الواقع الأعمدة المحافظة على الأرض أن تميد بأهلها، وقد جاء في الحديث الشريف عن الإمام الكاظم عليه السلام: "فما من مسجد بني إلاّ على قبر نبي أو وصيّ نبيّ".() وهكذا تحولت دماء الشهداء إلى مسيرة ايمانية، من طبيعتها ان تعكس مصداقيّة التفاؤل والأمل باللـه الكبير الذي له وحده فقط رسم مقدّرات خليقته والقضاء فيهم وعليهم. وهذا الأمل يجسّد عمق الانتظار، وهذا هو معنى التسليم والشكر في العقيدة الإسلامية؛ الشكر الذي يركّز على الجوانب الإيجابية في الحياة ولا ينسى أو يتناسى السعي الواعي الى حلّ وتلافي السلبيّات.
    المفردة الثانية: أنّ الاستقامة تبنى على أساس الزهد في الدنيا، فمن المصاعب والمشاكل التي تهزّ الإنسان بكل كيانه ولا تترك له مجال الاستقامة على الطريق، هي نيّته المسبقة في البحث عن المراكز والمناصب ومغريات الدنيا الأخرى. وهذا النموذج حينما يدخل حلبة الصراع فيتأخّر عليه الحصول على ما كان يصبو إليه من الماديات سيصاب بمزيد من الإحباط، ويكون عرضة مباشرة لردود الأفعال التي يتّخذها هواه. فهو كان يتصوّر، أو يصوّر لنفسه أنّ عملية الصراع ينبغي تجرّدها عن تقديم التضحيات، بدءً ببذل المهج وإنتهاءً بتقديم الماديات، وهو بين هذا وذاك كان يعتقد بأن السير في عملية الجهاد عبارة عن عملية أخذ لا عطاء.
    أما الزاهد بماديات الدنيا؛ كأمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، حيث دخل الحرب على بيّنة من أمره؛ دخل وهو يعرف ما عليه وما له. كان يعرف أنّ عليه الاستقامة في المعركة بإخلاص، وأنّ له عظيم الثواب من الله تبارك وتعالى.
    إن هناك العشرات من الأحاديث والروايات الشريفة التي عكف علماؤنا الأعلام على تدوينها في كتبهم وموسوعاتهم، والتي تفيد بأن الغرض من الجهاد هو ضمان مستقبل أفضل للأجيال اللاّحقة، من قبيل قول النبي صلى الله عليه وآله: "اغزوا تورّثوا أبناءكم مجداً".() وهذا يشير الى لزوم منع المجاهد نفسه عن التفكير المصلحي، وخوض المعارك بمختلف أشكالها وظروفها بنيّة ضمان العزة والعدالة للأجيال اللاّحقة، وأنّ البحث عن الدنيا يتطلب ميادين أخرى، غير ميادين الجهاد وتحدي الطغاة.
    وقد شرط الله سبحانه وتعالى الزهد والرغبة عن الدنيا على أئمة المسلمين، كما جاء في دعاء الندبة المأثور، "بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها". ولمّا علم الله أنهم سيكونون أوفياء لهذا الشرط أعطاهم الله ما أرادوا من نصر وعزة وكرامة، "فشرطوا لك ذلك وعَلِمْتَ منهم الوفاء به فقبِلْتَهم وقرّبتهم وقدَّمت لهم الذكر العليّ والثناء الجليّ وأهبطت عليهم ملائكتك وكرّمتهم بوحيك ورفدتهم بعلمك وجعلتهم الذريعة إليك والوسيلة الى رضوانك".()
    المفردة الثالثة: ضرورة الانفتاح بين الطليعة - الخاصة - بعضها على بعض من جهة، وبين الخاصة والعامّة من جهة أخرى. فإنّ من أعقد الأزمات والمشاكل التي تحطم روح الاستقامة في الأمة هي تناحر الطليعة فيما بين أقسامها وأشكالها. فالطليعة كمنطوق ومفهوم يفترض أن تضم أناساً مؤمنين صالحين صادقين مجاهدين، غير أنّ الشيطان يزرع بذور الفتنة والخلاف والنفاق. ولا يمكن بأي حال من الأحول تصوّر مجاهدين صادقين، هدفهما مرضاة اللـه تبارك وتعالى وهما يتناحران أو يتظاهر أحدهما أمام الآخر بما لا يبطن.
    وليكن في حسبان الجميع أنّ الانسان ككائن مخلوق من طبيعته النفسية أن يصاب في بعض الأحيان بالإرهاق النفسي والذهني والعاطفي، مما قد يعكس على بعضٍ من تصرفاته ما يفهم منه العناد أو الجدال غير الشرعي. ولهذا فإن الدعوة تشمل الجميع، لكي يحملوا أنفسهم على الصبر والتواصي به، حتى تكون ظاهرة حسن الظنّ هي الظاهرة النافذة المفعول في الصف الإسلامي.
    وثمة أزمة أخرى، وهي ابتعاد الطليعة عن الجماهير، وهذا لعمري ما يسهل إلى أعلى حدٍّ للعدو في أن يوجّه ضرباته المتتالية والقاتلة للجميع. وعليه فإن من الأهم في هذا الإطار أن تسعى الطليعة الى تكريس روابطها المتنوعة والمتينة بالمجتمع؛ فلا حواجز نفسية من قبيل التعالي والتكبر بداعي الفهم الأكثر أو الإحساس الأشدّ، ولا ضرورة أبداً في أن يتكلم العالم المسلم بلغة علمية غريبة على مستوى فهم وشعور الآخرين، وليكن نموذج علاقة أهل البيت عليهم السلام بالناس هو النموذج الأوّل والأساس في تعامل الطليعة مع الجماهير في واقعنا الحاضر، وليس من رسالة ومهمة العلماء والمفكرين صياغة لغتهم وصياغة ما لديهم من رؤى وبصائر بقوالب غريبة أو جامدة وجافة، بل العكس هو الصحيح تماماً، إذ مهمتهم التي فرضها اللـه عليهم هي التبيان، وهذا هو القرآن الكريم بين أيدينا؛ قد وصفه الله بأنّه ]وَقُرْءَانٍ مُّبِينٍ[ (الحجر/1) أي واضح وموضّح في الوقت ذاته، وهذا هو النبي الأكرم صلى الله عليه وآله قد قال: "إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم". ()
    فالأمر المؤكد هو أن تتفاعل الطليعة مع الجماهير وألاّ تتعالى عليها بأيّ شكل من الأشكال، إذ أنّ أيّة حركة استطاعت أن تكون حركة جماهيرية تنطق باسم الناس وتعاني همومهم وتعمل على الأخذ بيدهم نحو إرادة الله ونحو النصر، فإن تلك الحركة حركة لا تموت أبداً؛ لأنّ الفرد الطليعي الواحد إذا كان معرّضاً للإرهاق أو التراجع أو الموت، فإن الأمة إذا نهضت بوعي وتفاعلت مع تطلعات دينها وأوامر ونواهي ربّها، فهي أمة لا ترهق ولا تتراجع ولا تموت أبداً.
    إذن؛ فهذه ثلاث مفردات إذا وُجدت؛ وجدت الإستقامة، وتوفر في الانتظار الصحيح شروطه، وهنالك يأتي أمر الله ونصره. وليكن في الأذهان أن من المستحيل أن تنال حركة إسلامية ما النصر دون إرادة وفعل غيبي إلهي، ولكنّ اللـه يريد من المؤمنين به الإعداد؛ لأنّه يريد أن يمحّص ما في القلوب، ويريد للإنسان المؤمن أن يثبت جدارته ليكون أفضل من سائر المخلوقات.

    الإستقامة ثمن الأهداف العظيمة
    عندما تطمح أمة للوصول الى هدف عظيم، فلابد من الاستعداد لتقديم عمل يساوي ويعادل هذا الهدف العظيم. وعندما تقرر أمة العيش مستقلة ومتقدمة، وتسعى الى قهر الطبيعة، وتستهدف التغلب على نقاط ضعفها من فقر وجهل ومرض وعجز، وتريد التغلب على المشاكل السياسية والاجتماعية، فلابد لها من أن تدفع ثمن ذلك، وهذا الثمن عظيم. فالذين يطمحون طموحات سامية ثم لا يدفعون بإزائها الثمن المناسب، فانما هم يعيشون الأماني التي لا تغني عن العمل شيئاً.
    شرط لمرضاة الله
    وفي الآيات التالية من سورة
    (فصلت) يؤكد الله عز وجل على ضرورة توفر الاستقامة من أجل الوصول الى مرضاته، واقامة حكمه:
    ]إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلآَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الأَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ الْسَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ[ (فصلت/30-35)
    والآيات الكريمة السابقة تقرر أن في طريقنا ومسيرتنا عراقيل وصعوبات، لابد من أن نستعد لازالتها، والتغلب عليها. وهناك مشاكل لابد من التحصن ضدها، ومصائب من واجبنا الصبر عليها، وهزائم وانتكاسات لابد من استيعابها وتحويلها الى انتصارات.
    طريقنا ملئ بالتضحيات
    إن في الطريق الذي نسلكه تضحيات ومآسي، ودموعاً ودماء.. ومن أجل ذلك لابد أن نستقيم. فالله تبارك وتعالى لم يقل في آية من آيات القرآن الكريم إن طريق الجنة سالك ومعبّد ومفروش بالزهور والرياحين والورود، بل إنه تعالى أكد المرة بعد الأخرى أن طريقها محفوف بالمخاطر، والعقبات الكأداء التي لا مناص من اقتحامها.
    وهكذا فان الذي يقول "ربي الله" لابد أن تعترضه عقبات، وتتحداه مشاكل. فقوله "ربي الله" يعني أن يكفر بما سواه؛ أي يكفر بالطاغوت والمجتمع الفاسد والانحرافات الفكرية، ويرفض الخضوع للأهواء والشهوات. فشرط المربوبية الحقة أن تعيش حراً مستقلاً، وأن لا تخضع لشهواتك وشهوات الآخرين، ولا تستسلم لقانون غير قانون الله عز وجل.
    وقد تسأل لماذا إستخدم السياق القرآني كلمة (ثم) ولم يأت بحرف الفاء في قوله تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا[. وحسب ما يبدو لي، إنّ (ثم) تدل على أن المشاكل ستستمر، فلو كان الله تعالى قد قال: "إن الذين قالوا ربنا الله فاستقاموا" فربما دلّ ذلك على أن عبارة "ربي الله" تحتاج الى استقامة واحدة؛ أي الى لحظات أو ساعات أو أيام من الاستقامة. ولكن السياق القرآني الكريم استخدم (ثم)، وكأن الزمن سيستمر، والاستقامة تتم بشكل تدريجي.
    التأييد الإلهي
    ثم يقول تبارك وتعالى
    : ]تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلآَئِكَةُ[ذلك لأن العمل الذي يقوم به المؤمنون تنوء به الجبال، وتثقل به الأرض. فهو عمل عظيم، ولذلك فانهم بحاجة الى الاستقامة والتأييد الغيبـي من خلال تنـزيل الملائكة عليهم. فالملائكة تهبط عليهم المرة بعد الأخرى، لأن العمل عظيم بعظمة الهدف المراد تحقيقه، ولأن الله عز وجل يعلم أن الانسان خلق من ضعف، فلولا التأييد الغيبـي والاتصال بالحق لما استطاع الإنسان المؤمن أن يحقق الانتصار كما يصرح بذلك تعالى قائلاً: ]وَلَوْلآ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً[ (الاسراء/74)
    وعلى سبيل المثال فلو لم يرِ الله النبي يوسف عليه السلام برهانه، لهمّ بها مثلما همّت به. ولو لم يعطِ الله تبارك وتعالى ابراهيم عليه السلام رشده، وموسى عليه السلام تأييده، وآدم وسليمان عليهما السلام التوبة.. لما كانوا قادرين على مقاومة ذلك الزخم الهائل من الضغوط، وتلك الأمواج الهادرة من المشاكل. ولكن الله سبحانه وتعالى تفضّل عليهم بالتأييد، وفي هذا التأييد بشارة لكل أولئك الذين يريدون الجنة. فبالرغم من أن الاستقامة شاقة للغاية إلى درجة تشقق الجبال منها، ولكن تأييد الله يمنحهم الاستمرارية على الثبات والاستقامة.
    فعلى الإنسان المؤمن أن لا يهن ولا يحزن، فالله جل وعلا يؤيده بنصره مادياً ومعنوياً، وذلك بأن يثبّت قلبه. فالملائكة لم تنـزل في معركة بدر إلاّ لتثبيت قلوب المؤمنين، وبثّ السكينة في نفوسهم، وإلى ذلك تشير الآية القرآنية: ]إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلآَئِكَةُ[.
    والملاحظ أن الآية تقول: "تتنـزّل" ولا تستخدم لفظة "تنـزل" لأن النـزول يحدث مرة واحدة، أما التنـزّل فيحدث المرة بعد الأخرى؛ أي إنه يفيد الدوام والاستمرارية. فكلما واجهت المؤمنين مشكلة، نزلت عليهم ملائكة الرحمة والسكينة والاطمئنان والتثبيت القلبي.
    البشارة بالجنة
    والملائكة توحي لهؤلاء المؤمنين بعدم الخوف والحزن؛ أي بعدم الخوف مما يأتي، وعدم الحزن على ما مضى، ثم تبشرهم بدخول الجنة
    : ]وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ[.
    فإذا كانت السلعة الجنة، فالثمن رخيص مهما كان باهظاً، لأن الله سبحانه وتعالى هو وليّ المؤمنين في الدنيا والآخرة، كما وعد بذلك رب العزة إذ يقول: ]نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الأَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ[.
    وعندما يدخل الإنسان المؤمن السجن، ويتعرض للتحقيق والتعذيب على أيدي الجلادين، فإنه لا يدخل غرفة التحقيق وحده، وإنما تدخل معه أيضاً الملائكة الحافّة به، الحائمة حوله.
    وعندما يكون الضيف هو المؤمن؛ العبد المخلص الذي أعطى كل حياته في سبيل المضيف الذي هو رب العالمين الغفور الرحيم، فكيف تكون إستضافة الله عز وجل لهذا العبد؟ هذه الاستضافة يصفها القرآن في قـولـه: ]نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ[.
    بنود الاستقامة
    ثم يذكر لنا السياق الكريم بنود الاستقامة في قوله تعالى
    : ]وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ[.
    فبنود الاستقامة هي: الدعوة الى الله، والعمل الصالح، والاعلان عن الموقف الصادق الذي هو موقف التسليم لرب العالمين.
    والاستقامة هي أيضـاً إستقامة السلوك بأن نتعاون مع إخوتنا، وأن لا يصلهم منا سوء حتى وإن كان من ألسنتنا.]وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ الْسَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ[.



    الإستقامة ضمان النجاح
    ثمة آيات بينات من سورة هود جمعت في تضاعيفها خلاصة تجارب الأنبياء عليهم السلام، وموجز الدروس التي من الممكن إستلهامها من حياتهم، وقد بدأ الحديث عن هذه التحارب والدروس بقوله عز من قائل: ]وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ[ (فصلت/45).
    عصمة من الخلاف
    فالقرآن هو أفضل ضمان لعدم التفرقة عندما نتمسّك به، ونعتصم بحبل الله الذي فيه، أمّا إذا اتخذناه مادة للاختلاف، وتبريراً للأهواء، فان المعادلة ستصبح في ميزان آخر
    .
    وكتاب الله سبحانه يمثّل دائماً دليل الوحدة ورمزها، وعصمة من الخلاف والضلالة، ولابد أن نرجع إليه ما دام بين أيدينا، ونختلف إليه لا أن نختلف فيه. فهو إطار لكل القيم الإلهية الصائبة التي تعالج مشاكل الإنسان، ومن أبرز المشاكل التي يبتلى بها هذا الإنسان إختلافه، وإختلاف مذاهبه وأهوائه ومصالحه.. ولذلك فانّ القرآن الكريم يمثل القاضي الذي يحسم الخلافات الناشئة بين الناس إذا احتكموا الى قيمه.
    ومن الملاحظ أن الانسان يجعل نفسه مرّة محوراً لمواقفه وأفكاره وتقييمه للآخرين، ومرّة أخرى يجعل الحق المحور لما يتخذه من مواقف، وما تصدر منه من أحكام، ويعود الى القرآن كلّما احتار مستفسراً عمّا يجب أن يفعله. وحينئذ يستطيع أن يحصل على الفكر السليم، والخطة الواضحة، والمواقف الصحيحة. أمّا إذا جعل نفسه هي المحور، وقيَّم الأحداث وفق ما تمليه عليه نفسه، واتخذ مواقفه بناءً على أوامرها، فان أفكاره ستكون مهزوزة قلقة؛ فتارة يحكم بصحة وسلامة حدث ما، وتارة يخطّؤه. فمواقفه من الأمور تكون إيـجابية مرة، وأخرى سلبية؛ لا لطبيعة التغيير الذي يحدث في الأمر، بل لطبيعة التغيّر فيه.
    وهذه المواقف هي السبب الرئيسي للاختلافات، أما المواقف التي تصدر من إتّباع الحق فهي المواقف الصائبة. فهناك فرق كبير بين أن يقول الإنسان: من معي؟ وبين أن يقول : مَن مع الحق؟ لأنّه في المرّة الأولى جعل من نفسه محوراً، وجعل الآخرين يلتفّون حوله، أمّا في المرة الثانية فقد جعل الحق محوره؛ وبالتالي فإنّ رؤيته ستكون سليمة.
    الإنسان مسؤول عن أعماله
    ولابدّ أن يعرف الإنسان أنه مسؤول عما يقوم به من أعمال، ومحاسب عليها إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشر، ولذلك نرى القرآن يؤكد باستمرار على فكرة المسؤولية، حتى تبدو وكأنها خلاصة لتوجيهات آيات القرآن
    . والتدبّر في هذه الآيات يفرز توجيهاً عاماً يهدف الى ترسيخ هذه الفكرة في النفس البشرية.
    ولكن لماذا كلّ هذا الاصرار على تأكيد فكرة المسؤولية؟
    الجواب
    : إن الإنسان يهرب دائماً من تحمل المسؤولية، ولا يريد أن يوحي الى نفسه أنّه مسؤول، ويرى من الصعب عليه أن يحمّل نفسه هذه الأمانة، فيبعدها عنه حتى أنه ينسب الأخطاء والسلبيات الى ما حوله تخلّصاً من المسؤولية. ولكن القرآن الكريم يقول: ]وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ[ (هود/111). ونحن نلاحظ أن في هذه الآية ستة تأكيدات تركّز الكلام، لكي يكرّس القرآن روح المسؤولية في أنفسنا.
    إستقم ولا تطغى
    ثم يقول تعالى
    : ]فَاسْتَقِمْ كَمَآ اُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا[ (هود/112)، وهذه الآية تطالب بالاستقامة البعيدة عن التكبر والتعالي والطغيان، وعن المنّة على الله عز وجل، بأننا قد استقمنا. فالاستقامة يجب أن تكون مع التواضع، وهي ليست بالأمر الهيّن اليسير، خصوصاً عندما يشتدّ البلاء، وتزداد المصائب، وتطول المدّة.. حينذاك يجدر بالانسان أن لا يتراجع أو يتخاذل ويتكاسل، بل ينبغي أن يصبر ويستقيم، لأن الاستقامة هي بحد ذاتها- عامل من عوامل النجاح.
    وللأسف فإننا نرى أن نشاطات البعض موسمية تتحكم فيها الأهواء، والأمزجة؛ فهم لا يعملون إلاّ عندما تهوى أنفسهم العمل، ويتوقّفون عندما لا يستسيغون التحرك.. ولا يمكن لهؤلاء أن ينجحوا في حياتهم، لأن الحياة ذات أجزاء متّصلة مع بعضها البعض كالصلاة التي لا يمكن أن تكون صحيحة ومقبولة إذا انعدم جزء منها.
    ولأجل أن يستقيم المؤمنون على الطريق السوي والمنهج المرضي، يقول ربنا عز وجل: ]وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ[ (هود/113).
    وهكذا يجب على الإنسان المؤمن أن يجعل هذه الآية نصب عينيه وخصوصاً في ظروف المصاعب والمحن، وإذا أقبلت عليه الفتن كقطع الليل المظلم، وتوالت عليه الضغوط من كل مكان، وشعر بالضعف، فعليه في هذه الحالة أن لا يستسلم لهذا الضغط أو يركن الى اليمين أو الشمال، بل عليه أن يصمد ويركن الى الله سبحانه وتعالى فالضغوط الشديدة، والمصاعب الأليمة تجعل الإنسان بين طريقين؛ بين أن يركن الى الله جل جلاله، والى قوّته وحصنه الحصين، وبين أن يركن الى الذين ظلموا، وحينئذ سوف لا ينصره الله، ويكله إليهم.
    الصلاة زاد روحي
    ومن طبيعة الإنسان أنه يغفل، ويصيبه التعب، فهو بحاجة الى زاد روحي، يجده في الصلاة؛ فعليه
    اذن- أن يكثر من إقامتها، ويُحبِّبها الى نفسه كما يقول عز من قائل: ]وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ[ (هود/114).
    فعندما يكون الإنسان في حرج، سواء فيما يتعلّق بالحياة الدنيا أم الآخرة، فانّ الصلاة تكون عامل تفريج لهمّه وغمّه ولذلك فانّ عليه أن يقوّي علاقته بالصلاة، ولا يجعلها مجرّد علاقة ضعيفة. فمن المستحيل على الشيطان أن يخدع الإنسان المرتبط بالصلاة برابطة قوية متينة، لأنه يلجأ إليها كلّما حاول الشيطان إغواءه، والله سبحانه وتعالى يقول: ]وَاسْتَعِينُوْا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ[ (البقرة/45).
    وأداء الصلاة والمواظبة عليها ليست أماناً للمؤمن من عذاب الآخرة، ومؤنسة له في القبر، ومنقذة له من هول المطلع، ومن ظلمة القبر فحسب، بل إن المؤمنين يلجؤون إليها كلّما أشكلت عليهم مسألة شرعية فتنفرج أساريرهم وجميع قضاياهم المعقّدة. فعلى الإنسان المؤمن أن يرتبط إرتباطاً قوياً بالصلاة، وأن يواظب على أدائها في أوقاتها. فالصلاة تمثل حالة روحيّة تشعر الإنسان بقيمة الارتباط مع الخالق، وتسهّل عليه كثيراً من المشاكل النفسية والروحية.
    عدم استعجال النتائج
    والانسان ينتظر نتيجة ما يعمله بعد إنتهاء العمل مباشرة، ولكنّ القرآن يأمره بالصبر
    :]وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُـحْسِنِينَ[ (هود/115) موضحاً له أن ثمار العمل بحاجة الى وقت، وإنّ عليه أن يستغلّ هذا الوقت في أداء الحسنات ويبادر الى عمل الصالحات ليرى نتيجة عمله في المستقبل دون تعجّل للأمور.

    الإستقامة ثمرة الجنة
    على الرغم من إن الجنة غاية كل مؤمن، غير أنه لا يدخلها طمعاً بملكها والخلود فيها، رغم أن الله تعالى سيمنحه ذلك؛ بل سيدخل الجنة بقلب طاهر نقي، خال من كل شائبة.. كما يقول ربنا عز وجل:]وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ[(الحجر/47)
    بلى؛ الجنة لا يمكن أن يدخلها الإنسان الحسود، الحقود، الضعيف الارادة؛ بل يدخلها من اُوتي الارادة القوية والشجاعة والإقدام لتحدي عقبات الطريق، ومشاكل الحياة؛ كما قال الله سبحانه:]إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ[(الاحقاف/13-14).
    والقرآن الكريم يعطي للانسان مقياساً واقعياً لتمييز أصحاب الجنة من أصحاب النار؛ فهو يصف أصحاب الجنة بأنهم مستقيمون على إيمانهم رغم قساوة الظروف، وضغط الدنيا، ومصاعب الإستقامة. علماً بأنه ليس كل إنسان لديه القدرة على الإستقامة، فقد يكون والدك هو الذي يخالفك كما خالف أبو النبي إبراهيم خليل الله، وقد يكون عمك هو الذي يعارضك ويقف في وجهك كما فعل ذلك أبو لهب بالنسبة الى النبي صلى عليه وآله، وقد يكون هذا العدو متمثلاً في نظام الحكم الذي تعيش فيه والذي قد يمارس ضدك الضغوط المختلفة.. وفي هذه الحالة فقط سيكون بإمكانك دخول الجنة، كما يقول تعالى :]إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[. (الاحقاف/13-14)
    أما إذا بقيت ولو ذرة من سلبيات الدنيا ورواسبها في نفس الانسان، فانه سوف لن يدخل الجنة الا بعد ان تسقط عنه تلك الذرة.
    وقد جاء في الدعاء المأثور: "بك أستجير يا ذا العفو والرضوان من الظلم والعدوان، ومن غِيَرِ الزمان، وتواتر الاحزان، وطوارق الحدثان، ومن انقضاء المدة قبل التأهّب والعُدّة ".()
    فالخطر يكمن في مفاجأة الموت للانسان قبل أن يستعد ويتأهب له.
    حتى نكون من أصحاب الجنة
    والسؤال المهم المطروح في هذا المجال هو
    : كيف يتسنّى لنا الحصول على نفسية أصحاب الجنة مع ما نواجه من ضغوط؟ فغواية الشيطان، وأهواء النفس، وإغراءات الدنيا بالاضافة الى ضعف الانسان، كل ذلك يمثل عقبات تقف في طريق الانسان، وتمنعه من أن يكتسب تلك القوة النفسية. فكيف السبيل الى ذلك ؟
    إن على الانسان أن لا يكتفي بتغيير النواحي الظاهرية من حياته ولا شكله الخارجي، فمثل هذا التغيير
    - وان كان مطلوباً - ليس هدفاً، بل هو جسر الى التغيير الأساسي، وهو تغيير النفس.
    وللأسف فان البعض يتصور أنه قادر على تحدي الضغوط عندما تواجهه، ولكن على الانسان ان لا يضمن تحقق مثل هذا التصور والإطمئنان إليه من دون إمتحان. فعند الإمتحان يعرف الانسان مدى قدرته على التحمل. فكثيراً ما يكون الإرهاب أو الإغراء سبباً للانحراف ذلك، لأن النفس لم تتلق التربية الصحيحة.
    وعلى سبيل المثال فان الانتظار الطويل هو إمتحان للانسان، فقد يتصور أحدنا ان التغيير من الممكن أن يتحقق خلال فترة قصيرة، ولكن الانتظار يطول،فيتعب وينهار، ويوسوس إليه الشيطان قائلاً: متى نصر الله ؟ حتى يصل أخيراً إلى مرحلة اليأس.
    وعلى هذا فان القضية الأساسية ليست هي تغيير المظاهر؛ فكل إنسان باستطاعته أن يغير الظاهر، ويعوّد نفسه على الالتزام به. إلاّ أن تغيير الداخل يبقى هو الأساس في رسم شخصية الإنسان.
    كيف نضمن الاستقامة؟
    ولكن كيف نضمن الاستقامة؟
    إن الله تعالى رحيم بالانسان، ويعلم ضعفه وجهله وظلمه لنفسه، وقد أخبر سبحانه عن ذلك في الذكر الحكيم، إذ قال
    :]إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً[(الاحزاب/72)، وقال: ]وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً[(النساء/28)و ]كَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً[(الكهف/54).
    إن الغرور والجهل والظلم الذاتي صفات شائعة في الانسان، ولأنَّ الله رحيم بنا فقد أراد لنا أن نبلغ القمة عبر خطوات ومعارج، ولم يأمرنا أن نقفز الى هذا القمة بشكل مباشر. فهو يعلم إن الانسان لا يستطيع مقاومة هذا الضغط العظيم، ولذلك فانه لا يدخل الانسان في هذا الامتحان العسير قبل أن يكون هناك إمتحان من نوع آخر لِتُعْرَف - بالتالي - درجة ايمانه وتقواه. فهو عز وجل لا يمرّر الانسان اعتباطاً منذ البداية بإمتحان كإمتحان المؤمنين من أصحاب الأخدود، الذين واجهوا ملكاً في غاية الظلم والطغيان، وخيّرهم بين أن يكفروا بالله أو يدخلوا في أخدود النار. فهو لم يكن يريد أن يقتلهم بيده، بل أراد منهم أن يقذفوا بأنفسهم في النار. فالله سبحانه وتعالى لا يواجه الانسان بشكل مباشر، ودون مقدمات بإمتحان كهذا.
    ومع ذلك فان هذه الإمتحانات وأمثالها هي أمام الانسان، وليست بعيدة عنه. فإمتحان الإغراء الشديد كالسلطة والملك والذي خدع رجال في التأريخ، وإمتحان الإرهاب الشديد الذي تعرض له أصحاب الأخدود وأمثالهم، ليسا بعيدين عن الانسان. ولكن الله جل شأنه لا يدخلنا في هذا الإمتحان العسير، إلاّ بعد أن يمرّرنا بمجموعة من الإمتحانات اليسيرة.
    وعلى سبيل المثال فان الصلاة هي إمتحان، وكذلك الحسد، وتحمل أخطاء الآخرين كما يقول تعـالى:]وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً[ (الفرقان/20).
    وهكذا الحال بالنسبة إلى الإهانة التي تلحق بالانسان، والتسليم الذي يجب عليه لقيادته ولو في أمور بسيطة.. فهذه كلها إمتحانات متدرجة متصاعدة حتى يحل يوم الإمتحان العسير. فان كنا نريد حقاً النجاح النهائي، فلا بد من أن نفكر بالنجاح منذ البدء.
    وللأسف فإنّ البعض يريد الإمتحانات السهلة، ولكن النتيجة الفاشلة ستظهر في الامتحان النهائي، وهذه هي المشكلة الحقيقة التي يواجهها الانسان. أما المؤمنون فانهم يحبون أشق الأعمال على أنفسهم، لأن كل عمل من هذه الأعمال يستتبع تغيّراً في الجوهر الداخلي للنفس. فكل إمتحان يغيّر جزء من النفس، وفي النهاية يصبح التغيير كلياً. فعلى الانسان أن لا يكتفي بتغيير الجوانب الخارجية، بل عليه أن يغيّر الجوانب الداخلية أيضاً، وأن يفتش عن أسلوب شاق لتغيير نفسه.
    إن النفس لا تتغير من خلال أمور ثانوية بسيطة، وهي تشبه الى حد كبير الفولاذ الذي إذا أردت أن تغيره، فلا بد من أن تجعله في بوتقة شديدة الحرارة، وتعرّضه للطرقات الشديدة، لكي يتغير بشكل تدريجي.
    وإذا ما وجدنا قلوبنا غير قابلة للتغيير، فلنعلم أنها قاسية، وان قساوة القلب لا تدع الإيمان ينفذ الى أعماق الإنسان، بل يبقى طافياً على السطح. وبهذا الايمان السطحـي لا يمكننـا أن نقاوم الشيطـان، والإغـراءات والإرهاب.. ولذلك فان على الانسان ان يفكر في كيفية تعميق الايمان في قلبه، وسيهتدي حتماً إلى ان الطريقة الوحيدة الى ذلك هي التعرض للمشاكل الصعبة، والإمتحانات العسيرة، والخروج منها بسلام.
    ولا يغيب عنا إنّ أمامنا درباً طويلاً، ومسؤوليات كبيرة، وتطلعات سامية، وأهداف كبيرة ونحن نؤمن بأن الله عز وجل أنعم علينا بنعمة الإسلام العظيمة. فالمطلوب منا - إذن - أن نجعل تقوية إيماننا وتعميق، وتكريس المفاهيم الإسلامية في عمق واقعنا من أولويات حياتنا. وبهذا الأسلوب وحده سوف يمن الله تبارك وتعالى علينا بالغلبة، ونضمن من خلال التوكل عليه إستقامتنا. وإذا ما ضمنّا إستقامتنا، فاننا سنكون بإذن الله عز وجل أصحاب الجنة التي وعد بها المتقون.



    الجنة ميراث الإستقامة
    ]إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلآَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الأَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ الْسَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ[ (فصلت/30-35)
    أن تصل القمة فذلك أمر صعب، ولكن أن تبقى فوقها فذلك أمر أصعب؛ وأن تكون إنساناً نشيطاً حيث تتجاوز الكسل والضجر وتتغلب على الوساوس الشيطانية فذلك أمر عظيم، ولكن الأمر الأعظم منه هو الإخلاص في هذا النشاط والعمل.
    ومن هنا؛ يحدثنا ربنا سبحانه وتعالى في سورة هود المباركة عن الاستقامة باعتبارها الموضوع الأهم في حياة الإنسان المؤمن، وباعتبار أنها تمثل الذروة في وصول المرء الى السعادة الأبدية. كما يضرب الله لنا الأمثال في ذلك، وأهمها الحديث عن الصعاب الكبيرة التي تعرَّض لها الرسل والأنبياء أثناء تبليغهم رسالة السماء الى أممهم. ففي هذه السورة المباركة حديث مفصّل عن شيخ المرسلين نوح عليه السلام الذي لبث في قومه ألف سنةٍ إلاّ خمسين عاماً يدعوهم الى دين الله القويم، حيث عاصر أجيالاً تبعتها أجيال، وكلها كفرت به وبرسالته، وتعرَّض خلالها هذا النبي العظيم إلى ألوان الأذى والشماتة، ولكنه صبر واستقام، بل لم يزده أذى المشركين له ولمن تبعه إلاّ صموداً وإصراراً على تبليغ ما أُمر به.
    الاستقامة ثمن الجنة
    يقول تبارك اسمه في خطابه لنبي الإسلام صلى الله عليه وآله
    : ] فَاسْتَقِمْ كَمَآ اُمِرْتَ[ (هود/112) ثم يضيف: ] وَمَن تَابَ مَعَكَ [ليعلم أنه ليس كل الناس قادرين على الاستقامة، بل فيهم الكثير ممن يسقط.
    إن الاستقامة أمر في غاية الصعوبة، لأنها بحاجة الى أرضية مسبقة ومخزون تربوي وروحي هائلين. فالإنسان في طفولته بحاجة الى الاستقامة في مواجهة اللعب، وحينما يكبر ويكون مراهقاً تكون إستقامته ضد الشهوات والجنس وتوافه الأمور، وحينما يكون رجلاً لابد لـه من الاستقامة في الكسب حيث يواجه الربا والغش في التجارة، ويكبر قليلاً فتكون إستقامته على ألا تتناوشه الخطوط السياسية أو الفكرية المنحرفة، وإذا أصبح في سن الخامسة والثلاثين مثلاً واستقرت حالته المعاشية لابد لـه من الاستقامة لئلاّ يلهيه التكاثر بالأموال والأولاد... وهذه الاستقامة مطلوبة منه حتى آخر لحظة من لحظات حياته، حيث يكون وجوده ساحة للصراع بين الشيطان والأجل.. وقد رأينا أو سمعنا أن هناك من يتقبّل التلفّظ بالشهادتين وهو في حالة الإحتضار، وهناك من يتنكَّر للشهادتين ليستبدل بها أشعار الغزل والهراء وهو يسلِّم روحه لملك الموت!!
    إن القسم الأكبر من الناس يرون بأن الجنة ليست في مستوى التضحية، ويتخيلون بأن الجنّة لو جاءت بصورة عفوية فبها، وإلاّ فلا... ويغفلون أو يتغافلون عن أن لدخول جنان الخلد ثمن، وهو الاستقامة والصبر على فتن الدنيا وعلى مكارهها ومصاعبها ومصائبها.
    وها هو الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام يقول مؤكداً في إحدى خطبه: "هيهات! لا يُخْدَعُ الله عن جنّته".() أما الإمام السجاد عليه السلام فيقول في كلمة جميلة، عن أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته (الوسيلة) قال: "ما شرٌ بشرٍّ بعده الجنة، وما خيرٌ بخيرٍ بعده النار".() وجاء في الحديث الشريف: "لو أُدخل إنسان الى الجنة لحظةً واحدة، ثم أُخرج وسئل هل رأى شراً؟ لقال كلا"، بمعنى إنصهار المشاكل والأذى في مقابل الجنة.
    وهناك آيـات كثيرة تشير الى هذا المعنى، من قبيل قوله سبحانه وتعالى: ] لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ[. (يونس/62) فمن دخل الجنة لن يخشى النار ولن يخاف الإهانة أو الذل، وهو لا يحزن على ما دفعه في سبيل الله في الدنيا.
    وكذلك قـولـه سبحانه وتعالى على لسان مؤمن آل يس الذي أنذر قومه فعذّبوه أشد ما يكون العذاب، ثم ذبحوه من الوريد الى الوريد، ثم حرقوا جسده ونشروا رماده في البحر لكي لا يبقى لـه أثر ولا قبر، ولكنه حينما دخل الجنة رأى ثمن الصبر والاستقامة والإيمان : ]قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ[ (يس/26-27)
    وأيضاً قوله عز من قائل: ]لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ[. (الحشر/20) فالجنة تفوق كل شيء وبصورة مطلقة، لأنها فيها رضوان الله، وفيها الخلود، وفيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولأن الطرف الآخر هو النار؛ النار التي تترجم ارتكاب المعاصي والموبقات، كما تترجم غضب خالقها.
    إن ما نستفيده من الآية المباركة القائلة: ]إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلآَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ[.إن الذي يستقم لفترة من الوقت مخلصاً عمله لوجه الله تعالى، سيأخذ الله بيده ولن يتركه ليسقط وينهار، بل سينزل عليه الملائكة لترفده بالسكينة والاطمئنان، وتفتح أمام عينيه الأفق الواسع نحو السعادة وقطف ثمار الاستقامة والإخلاص..
    إذن؛ فالاستقامة قد لا تكون إلى الأبد، فإنك قد تستقيم ولكنك تصل الى درجة حيث تتنـزّل الملائكة عليك. وإنَّ كثيراً من إخواننا الذين كانوا في سجون الطواغيت ووصلوا الى حافة الإنهيار تنـزّلت عليهم الملائكة بمختلف الأشكال، فقسم منهم كان يرى في يقظته أو منامه ولياً من أولياء الله الصالحين يبشّره أو يطمئنه بأنه على مقربة من الجنة، فيعود إليهم إصرارهم على المقاومة والصمود.
    الاستقامة واقع لا خيال
    إن الضعف الكبير الذي قد يصيب هذا الإنسان أو ذاك عندما يريد تحقيق فعل شيء تراه يحلم ويتمنى، فيغفـل عن التخطيط ومواجهة الواقع بشكل منطقي، وإن كثيراً من الذين سقطوا ويسقطون في حبائل الشيطان إنما بسبب أنهم
    ]وَمِنْهُمْ اُمِّيُّونَ لاَيَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلآَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ[. (البقرة/78) فهم يحلمون ويتمنون، ولا يخلقون واقعهم للوصول الى ما يهدفون.
    فإذا أردت أن تبني بيتاً مثلاً فإنه لا يكفيك أن تحلم بالاقتراض من هذا أو ذاك، فإنك إذا واجهت الواقع سوف تجد أنك لا تملك شيئاً لبناء هذا البيت المزعوم... وهكذا هي الجنة، لا يمكن الحصول عليها بالتمـنّي والتظـنّي، بل يسمح بالدخول فيها عبر العمل والتخطيط والاستقامة. يقول تبارك وتعالى: ]وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ [ (التوبة/46) أي إن من يريد الحرب عليه أن يهيء نفسه لها عبر توفير المال والسلاح وسائر الوسائل الأخرى، ولكن المتورط والغارق في أحلامه فإنه ليس بوسعه إلاّ النوم والحلم واليقظة وتكرار ذلك.
    أما قضية التخطيط لتسيير الحياة وتحديد الهدف، فالقرآن قد وفّر ذلك على الإنسان، حيث بيّن العلاقات مع الزوجة والأولاد والأقارب والأصدقاء والغرباء إلى حدٍ كبير، فقال: ]يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لآ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلآ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ[ (المنافقون/9) وقال أيضاً: ]يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ [ (التغابن/14) وقال كذلك: ]رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاَبْصَارُ[ (النور/37)
    فإذا كانت لديك تجارة أو مال أو ولد، فاحذر أن يكون ما لديك حجاباً بينك وبين الله، فهذه وغيرها تمثل في حال اتخاذها هدفاً حجباً من الظلمات بإمكانها إضاعة المرء وإغراقه، حيث لن يرى نوراً ولا عقلاً ولا إيماناً. وعلى هذا الأساس ينبغي إتخاذ الطريق الوسط في التعامل مع مفردات الحياة، والاستفادة القصوى منها لتكون خير وسيلة نحو الوصول إلى ما أمرنا الله أن نصل إليه.
    إن المطلوب من الإنسان في علاقاته مع ذويه أن يتخذ السبيل الوسط ليكون خفيفاً في حياته، وقد جاء في المناجاة: "إذا قيل للمخفين جوزوا وللمثقلين حطّوا".() وهذا يعني أن القرآن الكريم وسنة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام يأمران الإنسان المؤمن ألاَّ يهجر الدنيا باعتبارها الوسيلة الوحيدة التي أنعم الله بها عليه، وألا يغرق في ظلماتها بعد أن اعتبرها هدفه الأول والأخير، كما يأمرنـا بصياغة تصور جديد عن الدنيا والآخرة، وأول آيات ودلائل هذا التصور هو التخفيف من الإقبال على الدنيا والانتقاء منها ما يعتبر وسيلة إعداد للآخرة. قال الإمام محمد الباقر عليه السلام: "كان أمير المؤمنين عليه السلام بالكوفة إذا صلّى العشاء الآخرة ينادي الناس ثلاث مرّات حتّى يسمع أهل المسجد: أيها الناس تجهّزوا رحمكم الله فقد نودي فيكم بالرحيل". ()
    وليس التجهيز إلاّ تهيئة الوسائل للرحيل، من قبيل محاسبة النفس ومراقبتها بصورة مستمرة، والتأكد الدائم من صحة الهدف ووضوحه، والاستغفار والتوبة الى الله، وطلب العفو ممن ظلمناهم، والعمل على إسعاد الآخرين وتوفير فرص الخير لهم.
    إن الاستقامـة بحاجة الى إعداد النفس، وكذلك الجهاد والتضحية والإيثار والإنفاق، ومن دون الإعداد والتخطيط تكون حركة المرء بمثابة حصر الهواء في الشبك، وبمثابة الحلم والسراب.
    الاستقامة والتربية الصالحة
    التربية الصالحة والفكر الواعي هما وعاء الاستقامة دون شك، ولا يمكن بحال من الأحوال تصور إنفصال التربية الصالحة والفكر الواعي عن أعمال البر والخير، من قبيل الإنفاق في سبيل الله؛ الإنفاق الذي ليس حكراً على الإنفاق بالمال، بل ثَم إنفاق بالجاه وبالعلم وبالوقت لبذله في سبيل الله، ومواجهة السيئة بالحسنة، لكسب أعداء الدين وتحويلهم الى مدافعين عن الدين
    . ولا شك إن كل هذه المفاهيم وما يتبعها من مصاديق تشكل بمجموعها حياة الإنسان المؤمن المستقيم والصابر.
    وأن يكون المرء ذا تربية ووعي صالحين وسليمين فيمارس أعمال البر ويعتنق ما هو الخير من التصورات والقناعات، فإنه سيصل الى الذروة من الحظ والحياة الآمنة في الدنيا والآخرة.
    نسأل الله سبحانه أن يجعلنا ممن استعد للرحيل وأعدَّ نفسه للجنة، وأن يوفقنا لصالح الأعمال، ويجـنّبنا السيئات، ويبصّرنا بعيوب أنفسنا، وأن يعيننا عليها كما أعان الصالحين على أنفسهم. ونسأله تبارك وتعالى أن يحيينا حياة محمد وآل محمد، وأن يميتنا ممات محمد وآل محمد، وأن يحشرنا مع محمد وآل محمد.

    >>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
    ==================================



    __________________________________________________ __________


    __________________________________________________ __________


    __________________________________________________ __________


    __________________________________________________ __________





يعمل...
X