عنوان الموضوع : هكذا يجب أن تكون.....و تلك هي المشكلة... موضوع اجتماعي
مقدم من طرف منتديات أميرات
إن الأسرة إحدى العوامل الأساسية في بناء الكيان التربوي وإيجاد عملية التطبيع الاجتماعي، وتشكيل شخصية الطفل، وإكسابه العادات التي تبقى ملازمة له طول حياته، فهي البذرة الأولى في تكوين النمو الفردي وبناء الشخصية، فإن الطفل في أغلب أحواله مقلّد لأبويه في عاداتهم وسلوكهم فهي أوضح قصداً، وأدق تنظيماً، وأكثر إحكاماً من سائر العوامل التربوية ونعرض فيما يلي لأهميتها، وبعض وظائفها، وواجباتها وعمّا أثر عن الإسلام فيها، كما نعرض لما منيت به الأسرة في هذه العصور من الانحراف وعدم القيام بمسؤولياتها. (الأسرة: في علم الاجتماع رابطة اجتماعية تتكون من زوج زوجة وأطفالهما، وتشمل الجدود والأحفاد، وبعض الأقارب على أن يكونوا مشتركين في معيشة واحدة، جاء ذلك في علم الاجتماع: ص92. ويرى البعض أن الزواج الذي لا تصحبه ذرية لا يكون أسرة، جاء ذلك في الأسرة والمجتمع: ص15-16)
وليس من شك أن الأسرة لها الأثر الذاتي والتكوين النفسي في تقويم السلوك الفردي، وبعث الحياة، والطمأنينة في نفس الطفل، فمنها يتعلم اللغة ويكتسب بعض القيم، والاتجاهات، وقد ساهمت الأسرة بطريق مباشر في بناء الحضارة الإنسانية، وإقامة العلاقات التعاونية بين الناس، ولها يرجع الفضل في تعلّم الإنسان لأصول الاجتماع، وقواعد الآداب والأخلاق، كما أنها السبب في حفظ كثير من الحِرف والصناعات التي توارثها الأبناء عن آبائهم..
ومن الغريب أن الجمهورية التي نادى بها أفلاطون، والتي تمجّد الدولة، وتضعها في المنزلة الأولى قد تنكرت للأسرة، وأدت إلى الاعتقاد بأنها عقبة في سبيل الإخلاص والولاء للدولة، فليس المنزل - مع ما له من القيمة العظمى لدينا - سوى لعنة وشر في نظر أفلاطون، وإذا كان من بين أمثالنا أن بيت الرجل هو حصنه الأمين، فإن أفلاطون ينادي: اهدموا هذه الجدران القائمة فإنها لا تحتضن إلا إحساساً محدوداً بالحياة المنزلية. (آراء أفلاطون وأرسطو في فلسفة الأخلاق والسلوك: ص143)
إن الأسرة مسؤولة عن نشأة أطفالها نشأة سليمة متسمة بالاتزان، والبعد عن الانحراف، وعليها واجبات، ملزمة برعايتها، وهي:
- أولاً: أن تشيع في البيت الاستقرار، والودّ والطمأنينة، وإن تُبعد عنه جميع ألوان العنف والكراهية، والبغض، فإن أغلب الأطفال المنحرفين والذين تعودوا على الإجرام في كبرهم، كان ناشئاً ذلك على الأكثر من عدم الاستقرار العائلي الذي منيت به الأسرة، يقول بعض المربين: ونحن لو عدنا إلى مجتمعنا الذي نعيش فيه فزرنا السجون، ودور البغاء ومستشفيات الأمراض العقلية، ثم دخلنا المدارس، وأحصينا الراسبين من الطلاب والمشاكسين منهم والمتطرفين في السياسة، والذاهبين بها إلى أبعد الحدود، ثم درسنا من نعرفهم من هؤلاء لوجدنا أن معظمهم حرموا من الاستقرار العائلي، ولم يجد معظمهم بيتاً هادئاً فيه أب يحدب عليهم، وأم تدرك معنى الشفقة، فلا تفرط في الدلال، ولا تفرط في القسوة، وفساد البيت أوجد هذه الحالة من الفوضى الاجتماعية، وأوجد هذا الجيل الجديد الحائر الذي لا يعرف هدفاً، ولا يعرف له مستقراً. (البيت والمدرسة: ص27-28)
إن إشاعة الود والعطف بين الأبناء له أثره البالغ في تكوينهم تكويناً سليماً، فإذا لم يرع الآباء ذلك فإن أطفالهم يصابون بعقد نفسية تسبب لهم كثيراً من المشاكل في حياتهم ولا تثمر وسائل النصح والإرشاد التي يسدونها لأبنائهم ما لم تكن هناك مودة صادقة بين أفراد الأسرة، وقد ثبت في علم النفس أن أشد العقد خطورة، وأكثرها تمهيداً للاضطرابات الشخصية هي التي تكون في مرحلة الطفولة الباكرة خاصة من صلة الطفل بأبويه، كما أن تفاهم الأسرة وشيوع المودة فيما بينهما مما يساعد على نموه الفكري، وازدهار شخصيته. (الأمراض النفسية والعقلية: ص ب)
يقول الدكتور (جلاس ثوم): ومهما تبلغ مسؤولية الوالدين في إرشاد الطفل، وتدريبه، وتوجيهه من أهمية فإنها لا ينبغي أن تطغى على موقف أساسي آخر ينبغي أن يتخذوه ذلك هو أن يخلقوا من البيت جواً من المحبة تسوده الرعاية، ويشيع فيه العطف والعدالة، فإذا عجز الآباء عن خلق هذا الجو الذي يضيء فيه سنن التكوين التي تقيم حياته، حرموه بذلك من عنصر لا يمكن تعويضه على أي وجه من الوجوه فيما بعد، فمع أن للدين والمجتمع والمدرسة أثرها في تدريب الطفل وتهذيبه إلا أن أحداً منها لا يعنى بتلك العواطف الرقيقة الرائعة التي لا يمكن أن تقوم إلا في الدار، ولا ينتشر عبيرها إلا بين أحضان الأسرة. (مشكلات الأطفال اليومية: ص48)
إن السعادة العائلية تبعث الطمأنينة في نفس الطفل، وتساعده على تحمل المشاق، وصعوبات الحياة، يقول سلامة موسى: (إن السعادة العائلية للأطفال تبعث الطمأنينة، في نفوسهم بعد ذلك حتى إذا مات أبوهم بقيت هذه الطمأنينة، وقد وجد عند إجلاء الأطفال من لندن مدة الغارات في الحروب الأخيرة أن الذين سعدوا منهم بوسط عائلي حسن تحملوا الغربة أكثر مما تحمّلها الذين لم يسعدوا بمثل هذا الوسط، ذلك لأن الوسط العائلي الحسن بعث الطمأنينة في الأطفال، فواجهوا الغربة مطمئنين، ولكن الوسط العائلي القلق الذي نشأوا فيه يزداد بالغربة. وإذا أعطينا الطفل ـ مدة طفولته في العائلة ـ الحب والطمأنينة أعطى هو مثل ذلك. (عقلي وعقلك)
- ثانياً: أن تشرف الأسرة على تربية أطفالها، وقد نصّ علماء الاجتماع على ضرورة ذلك وأكدوا أن الأسرة مسؤولة عن عمليات التنشئة الاجتماعية التي يتعلم الطفل من خلالها خبرات الثقافة، وقواعدها في صورة تؤهله فيما بعد لمزيد من الاكتساب، وتمكّنه من المشاركة التفاعلية مع غيره من أعضاء المجتمع. (علم الاجتماع: ص487)
كما أكد علماء التربية على أهمية تعاهد الآباء لأبنائهم بالعطف والحنان، والحدب عليهم، والرأفة بهم حفظاً وصيانةً لهم من الكآبة والقلق، وقد ذكرت مؤسسة اليونسكو في هيئة الأمم المتحدة تقريراً مهماً عن المؤثرات التي تحدث للطفل من حرمانه من عطف أبيه وقد جاء فيه:
(إن حرمان الطفل من أبيه ـ وقتياً كان أم دائمياً ـ يثير فيه كآبة وقلقاً مقرونين بشعور الإثم والضغينة، ومزاجاً عاتياً متمرداً، وخوراً في النفس، وفقداناً لحس العطف العائلي، فالأطفال المنكوبون بحرمانهم من آبائهم ينزعون إلى البحث في عالم الخيال عن شيء يستعيضون به عما فقدوه في عالم الحقيقة، وكثيراً ما يكوّنون في مخيّلتهم صورة الأب مغواراً أو الأم من الحور... وقد لوحظ في (معاهد الأطفال) أنه إذا كانت صحة الطفل البدنية، ونموه العضلي، وضبط دوافعه الإرادية تتفتح، وتزدهر بصورة متناسقة في تلك المعاهد، فإن انفصاله عن والديه قد يؤدي من جهة أخرى إلى ظهور بعض المعايب كصعوبة النطق، وتمكن العادات السيئة منه وصعوبة نمو حسه العاطفي). (أثر الأسرة والمجتمع في الأحداث الذين هم دون الثالثة عشر: ص37)
إن أفضل طريق لحفظ الأبناء مصاحبتهم، ورقابتهم، ويرى المربون المحدثون (أن أفضل ميراث يتركه الأب لأطفاله هو بضع دقائق من وقته كل يوم). (مجلة المختار عدد أبريل لسنة 1956 تحت عنوان أقوال مأثورة)
ويرى بعض علماء الاجتماع والباحثون في إجرام الأحداث (أن أفضل السبل للقضاء على انحراف الأحداث هو أن نلقط الآباء من الشوارع ليلاً). (مجلة الهلال عدد مايو لسنة 1957: ص18)
وإذا قام الأب بواجبه من مراقبة أبنائه، ومصاحبتهم فإنه من دون شك يجد ابنه صورة جديدة منه فيها كل خصائصه، ومميزاته، وانطباعاته وعلى الآباء أن يتركوا مجالس اللهو ويعكفوا على مراقبة أبنائهم حتى لا يدب فيهم التسيب، والانحلال يقول شوقي:
- ثالثاً: يرى بعض المربين أن من واجبات الآباء والأمهات تجاه أطفالهم هو تطبيق ما يلي:
1ـ ينبغي أن يتفق الأب والأم على معايير السلوك، وإن يؤيد كل منهما الآخر فيما يتخذاه من قرارات نحو أولادهما.
2ـ ينبغي أن يكون وجود الطفل مع الأب بعد عودته من عمله جزءاً من نظام حياته اليومي، فحتى صغار الأطفال يكونون في حاجة إلى الشعور بالانتماء، وهم يكسبون هذا الشعور من مساهمتهم في حياة الأسرة.
3ـ ينبغي أن يعلم الأطفال أن الأب يحتاج إلى بعض الوقت يخلو منه إلى نفسه كي يقرأ أو يستريح، أو يمارس هوايته.
4ـ تحتاج البنت إلى أب يجعلها تشعر بأنوثتها، وأنها من الخير أن تكون امرأة تتمتع بالفضيلة والعفاف والاستقامة.
5ـ يحتاج الولد إلى أب ذي رجولة وقوة على أن يكون في الوقت نفسه عطوفاً، حسن الإدراك، فالأب المسرف في الصلابة والتزمت قد يدفع ابنه إلى الارتماء في أحضان أمه ناشداً الحماية وإلى تقليد أساليبها النسائية. (كيف تكون أباً ناجحاً، ص39، و67، 85)
هذه بعض الأمور التي يجب رعايتها، والاهتمام بها فإن وفق الآباء إلى القيام بها تحققت التربية لصالحة التي تنتج أطفالاً يكونون في مستقبلهم ذخيرة للأمة وعزاءً لآبائهم.
إن للطفل خصائصه الذاتية من الصفاء والبراءة، وسلامة العاطفة وبساطة الفكر فعلى الأبوين أن يفتحا عينيه على الفضائل وإن يغرسا في نفسه النزعات الخيّرة ليكن لهما قرة عين في حياتهما.
وللأسرة وظائف حيوية مسؤولة عن رعايتها، والقيام بها، وهذه بعضها:
1ـ إنها تنتج الأطفال، وتمدّهم بالبيئة الصالحة لتحقق حاجاتهم البيولوجية والاجتماعية، وليست وظيفة الأسرة مقتصرة على إنتاج الأطفال فإن الاقتصار عليها يمحو الفوارق الطبيعية بين الإنسان والحيوان.
2ـ إنها تعدّهم للمشاركة في حياة المجتمع، والتعرف على قيمة وعاداته.
3ـ إنها تمدّهم بالوسائل التي تهيئ لهم تكوين ذواتهم داخل المجتمع.
4ـ مسؤوليتها عن توفير الاستقرار والأمن والحماية والحنو على الأطفال مدة طفولتهم فإنها أقدر الهيئات في المجتمع على القيام بذلك لأنها تتلقى الطفل في حال صغره، ولا تستطيع أية مؤسسة عامة أن تسد مسد الأسرة في هذه الشؤون. (المجتمع الإنساني: ص59-60)
5ـ على الأسرة يقع قسط كبير من واجب التربية الخلقية والوجدانية والدينية في جميع مراحل الطفولة.. ففي الأمم التي تحارب مدارسها الرسمية الدين بطريق مباشر أو غير مباشر كالشيوعية، وفي الأمم التي تسير معاهدها الدراسية على نظام الحياد في شؤون الدين والأخلاق كفرنسا وغيرها يقع عبء التعليم الديني على الأسرة... فبفضل الحياة في الأسرة تتكون لدى الفرد الروح الدينية وسائر العواطف الأسرية التي تؤهله للحياة في المجتمع والبيت. (الأسرة والمجتمع: ص20-21)
إن فترة الطفولة تحتاج إلى مزيد من العناية والإمداد بجميع الوسائل التي تؤدي إلى نموه الجسمي والنفسي، وإن من أوهى الآراء القول بأن الوظيفة الوحيدة للأسرة إمدادها للأبناء بالمال اللازم لهم، فإن هذا القول قد تجاهل العوامل النفسية المختلفة التي لابدّ منها لتكوين الفرد الإنساني كالحنان والعطف، والأمن والطمأنينة فإنها لازمة لنمو الطفل النفسي، ويجب أن تتوفر له قبل كل شيء. (الأسرة التربوية الاجتماعية: ص69-71).
لقد أكد علماء النفس والتربية أن للأسرة أكبر الأثر في تشكيل شخصية الطفل، وتتضح أهميتها إذا ما تذكرنا المبدأ البيولوجي الذي ينص على ازدياد القابلية للتشكيل أو ازدياد المطاوعة كلما كان الكائن صغيراً. بل يمكن تعميم هذا المبدأ على القدرات السيكولوجية في المستويات المتطورة المختلفة.
إنا ما يواجهه الطفل من مؤثرات في سنّه المبكر يستند إلى الأسرة فإنها العامل الرئيسي لحياته، والمصدر الأول لخبراته، كما أنها المظهر الأصيل لاستقراره، وعلى هذا فاستقرار شخصية الطفل وارتقائه يعتمد كل الاعتماد على ما يسود للأسرة من علاقات مختلفة كماً ونوعاً... إن من اكتشافات علم التحليل أن قيم الأولاد الدينية والخلقية إنما تنمو في محيط العائلة. (كيف تساعد أبناءك في المدرسة: ص193)
هذه بعض الوظائف المهمة التي تقوم بها الأسرة في ميادينها التربوية
• تقول الإحصاءات: أن معدل الرجال والنساء الذين يتزوجون في فرنسا لا يتجاوز السبعة أو الثمانية في الألف. (في قضايا الزواج والأسرة، ص137).
وتقول أيضاً: أن الرابطة الزوجية أصبحت أوهن من بيت العنكبوت، حتى أن محكمة بمدينة (سين) فسخت 294 نكاحاً في يوم واحد. (المصدر، ص138).
لماذا هذا الانخفاض الرهيب في نسبة الزواج؟ ولماذا هذه النسبة الضخمة في قضايا الطلاق؟
الواقع، أن الأنظمة المادية التي هاجرت قضايا الدين الأساسية، لم ولن تتمكن أن تضع العائلة في سياج متين يمنعها من الانهيار، فالدساتير الأسرية المادية لا تستطيع أن تعمل على توطيد العلاقات الزوجية، لأنها لا تستطيع أن تجيب على كل متطلبات الأسرة سواءً منها ما يرتبط بعلاقات أفراد العائلة أو ما يرتبط بالزواج وحده والزوجة وحدها، ومن الطبيعي في مثل ذلك أن يهرب الرجال والنساء من بناء حياة زوجية ما دامت تتسربل بالمأساة، والتعاسة، والفوضى بسبب تمزق الزوجين على أثر الانحرافات العريضة التي يفعم بها النظام العائلي الغربي، أما الإسلام فهو لا يترك الأسرة تسير حسب الأهواء، وتنجرف مع تيار العواطف، وإنما يرسم لها خطاً واضحاً في كل مجال من مجالاتها.. خطاً يحافظ على توازن البناء الأسري.. خطاً يوثق علاقات الحب والعطف والحنان فيما بين أفراد العائلة.
- الأول: تبادل الحب والعطف بين الزوجين من ناحية، وبينهما وبين الأولاد من ناحية أخرى، فإن الأسرة إذا غادرها الحب، وهجرها العطف لابد أن تتفاعل فيها عوامل الانهيار، والهدم، فتهدد مصير الأسرة، ولابد أن كل دقيقة تمر عبر حياة هذه الأسرة تنذر بأن تكون هي تلك الدقيقة التي تتحول فيها إلى ركام من أنقاض، ورماد، لأنها تكون دائماً على مسرح خطر معرّض للهيب النار ولفحات البركان.
إن الحب المتبادل يجب أن يرقد في قلب كل واحد من أفراد الأسرة، حتى يكون قنديلاً يضيء له الدروب الحياتية، وحتى يكون نبراساً لمسيرته نحو روافد السعادة، وينابيع الازدهار، ومنابع الخير والنعيم، ومن ثم يكون مشعل الحياة الفضلى في درب الحياة الكبير.
إن الحب المتبادل هو العامل الفعال الذي يدفع كل واحد من أفراد الأسرة إلى أن يتحمل مسؤولياته برحابة صدر، وبجذل وفرح طافحين، فكل واحد يشعر بأنه سعيد لأنه يتمتع بعطف الآخرين، وحبهم العميق، ولهذا فإن الإسلام يركز كثيراً على هذه النقطة.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام) مؤكداً ذلك: (إن الله عز وجل ليرحم الرجل لشدة حبه لولده) (الطفل بين الوراثة والتربية، ج2، ص126).
كما يؤكد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ذلك بقوله: (أحبوا الصبيان، وارحموهم) (المصدر السابق).
لأن الحب والرحمة عاملان أساسيان في توطيد العلاقات العائلية.
- الثاني: يجب أن يسود التعاون المشترك في المجالات المختلفة بين أفراد العائلة. لكي لا تشل الأسرة عن حيويتها، ونشاطها بصورة مستمرة، فإن التعاون يكنس الإرهاق، ويذيب التذمر من تحمل المسؤوليات. وكذلك. يوطد علاقات أفراد الأسرة بعضهم مع بعض. ولا يدع مجالاً لأن يتسرب التفكك إلى ربوع العائلة المسلمة التي تلتزم بمبدأ التعاون، والتكافل الاجتماعيين.
والتعاون بين أفراد العائلة لابد وأن يقود سفينة الحياة نحو مرافئ السعادة، ونحو موانئ الرفاه، والهناء، والدفء... التعاون لابد أن يحقق كل الآمال التي يعيشها فراد العائلة فرداً فرداً. وتترجمها على حلبة الواقع العملي.. التعاون لابد أن يجسد كل الأماني التي تدور في سراب الأفكار، فتمثلها مجسمة نابضة بالحياة.
- الثالث: تبادل الاحترام، والتوقير، والإحسان، سواءً من جانب الصغير للكبير، أو من جانب الكبير للصغير، فإن الاحترام، والإحسان يزرعان بذور الشعور بالشخصية، ويغرسان أوتاداً توطد العلاقات الأسرية بين الأفراد فعلى الوالدين أن يرحما الأولاد. لكي يحترمهما الأولاد من جانبهم. وكذلك على الأبناء أن يحترموا الآباء ويحترم أحدهم الآخر.
ويؤكد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) على هذه الناحية بقوله: (وقروا كباركم، وارحموا صغاركم)
كما يؤكدها الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بقوله: (وارحم من أهلك الصغير، ووقر الكبير).
والإسلام يبني علاقات الأسرة على أساس من (الإحسان المتبادل) بين الزوج والزوجة، والزوج والأولاد، والزوجة والزوج، والزوجة والأولاد. ويحدد القرآن الحكيم طرقاً من هذه العلاقة النبيلة حيث يخط ضمن آية من آياته:
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ألا تَعْبُدوا إِلاّ اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) (سورة البقرة: 83).
وهو يرفض ـ حينما يرسم العلاقات الأسرية ـ أن ينشأ التنافر، والتضجر بين أفراد العائلة، أو ينبت التذمر، والابتعاد فيحرض دائماً أن يقيم الأولاد علاقاتهم على أساس العطف والحنان والاحترام والإحسان. فيخط القرآن:
(وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) (سورة بني إسرائيل: 23).
- الرابعة: إطاعة الأب من قبل جميع أفراد العائلة لأنه يمثل النقطة المركزية في الأسرة، ولأنه أعرف ـ بحكم تجاربه وثقافته ـ بالمصالح الفردية والاجتماعية لكل واحد منهم، وطبيعي أن الإسلام يقرر الطاعة للأب في حدود طاعة الخالق فلو تمرد الوالد على مقررات النظام العام وشذ عن حدود العقيدة وأطر الاعتدال، وراحت أوامره تنغمس في رافد مصلحي شخصي، فلا يجوز للأولاد أو الزوجة إطاعته في الأمور العقائدية والدينية. لأن أوامره لا تحمل حينذاك أية مصونية تقيها من الظلم والعصيان والتمرد. يصرح بذلك القرآن الحكيم قائلاً:
(وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً) (سورة لقمان: 15).
فهنا تنقطع العلاقات العقائدية والعملية بينهما، أما علاقات الحب والعطف والود والإحسان، فيجب أن تطبع سرة الأولاد مع الأب حتى المنحرف فكرياً، لئلا تنهار الأسرة.
- الخامسة: قيام الولد بواجب النفقة، وتجهيز الملبس، والمسكن للزوجة والأولاد في مقابل قيمومته عليهم. فإن كل هذه الأسس توطد علاقات أفراد العائلة وتربطهم الواحد بالآخر أكثر.. فأكثر.. وتجعل منهم جسداً واحداً إذا بكى عضو منه، بكت بقية الأعضاء، وإذا أصيب عضو منه بمأساة، تعاونت معه بقية الأعضاء لرفعها.
- السادسة: عندما يقرر الإسلام حقوق الأب باعتباره سيد الأسرة، لا ينسى أن يضع بين يديه قائمة عن الحقوق المفروضة عليه تجاه أفراد العائلة: الأولاد والزوجة على حد سواء، لكي تتوطد العلاقات الزوجية والروابط العائلية وتبنى على أساس العدالة والمساواة.
فالأب إنما هو كموظف وكلت إليه إدارة (مؤسسة العائلة) ضمن حقوق وواجبات معينة. وعليه مسؤولية تشغيل وإصلاح هذه المؤسسة البشرية في إطار تلك الحقوق والواجبات، والإمام علي بن الحسين (عليه السلام) يرسم للأب واجباته وحقوق الآخرين حينما يقول:
(وأما حق ولدك: فتعلم أنه منك، ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره، وإنك مسؤول عما وليته، من حسن الأدب والدلالة على ربه، والمعونة له على طاعته فيك وفي نفسه، فمثاب على ذلك ومعاقب، فاعمل في أمره عمل المتزين بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا، المعذّر إلى ربه فيما بينك وبينه بحسن القيام عليه، والأخذ له منه، ولا قوّة إلا بالله) (بحار الأنوار: ج74، ص15).
وهكذا.. يقيم الإسلام علاقات الأسرة على أساس وطيد، ويرسم لها قوانين ومناهج تلتقي على خط المساواة والعدالة. لكي تغمر السعادة حياتها. ولكي تسير نحو ينابيع الهناء، والسلامة
مشكلة الأسرة ـ في هذه العصور الحديثة ـ مشكلة خطيرة جداً، فقد فقدت نتيجة التغيرات الاجتماعية كثيراً من وظائفها التي كانت تقوم بها من ذي قبل، فأدى ذلك إلى تفكك عرى الأسرة، وانهيار الروابط التي كانت تربطها فيما قبل، يقول بعض المربين:
(والواقع أن من مخاطر المجتمع الحديثة الرئيسية أن الدور الطبيعي الذي كانت تقوم به الأسرة يتضاءل نتيجة لاستيلاء مؤسسات أخرى على كثير من مسؤولياتها ونخشى نتيجة التضاؤل أن تفقد الأسرة الأثر الفعّال، الذي هو من أهم قوى الاستقرار في المجتمع..). (التعليم: ص87)
وإن من أوهى الآراء القول بإهمال شؤون الأسرة، وترك الحديث والبحث عنها، لأنها لا تؤثر في تطورنا الاجتماعي، بل إنها مصدر من مصادر الاستغلال يجب تحطيمها كما أعلنته الماركسية في بداية تطبيقها زاعمة أن الرجل يستغل زوجته وأولاده فيتخذهم أدوات إنتاج. (بيان الحزب الشيوعي: ص69، طبع دار التقدم في موسكو)
وأصر إنجلز على ذلك فقال: (ولا تعود العائلة الفردية بتحويل وسائل الإنتاج إلى ملكية عامة، الوحدة الاقتصادية للمجتمع، وتصبح إدارة المنزل الخاصة صناعة، وتصبح العناية بالأطفال، وتربيتهم قضية عامة، إذ يأخذ المجتمع على عاتقه تربية جميع الأطفال على حد سواء أكانوا ثمرة زواج أم لم يكونوا... وبهذا يختفي الخجل الذي يساور قلب الفتاة من جرّاء النتائج التي هي في زماننا أهم عامل اقتصادي خلقي يعوق الفتاة من استسلامها بحرية إلى الشخص الذي تحبه...). (أصل العائلة، ص81، ويراجع في معرفة المزيد من ذلك النظام الشيوعي، ص50)
وقد تراجعت الشيوعية عن كثير من مقرراتها لأنها اصطدمت بالواقع الذي يعيشه الناس في جميع مراحل تأريخهم من أن الأسرة نظام مستقر ثابت لا غنى للبشرية عنه ومن ثم اتجه المشروع الروسي إلى إعلاء شأن الأسرة والعمل على حماية الدولة لمصلحة الأم والطفل. ومنح المرأة إجازة قبل الولادة وبعدها بأجر كامل. (الدستور السوفيتي، المادة 122)
وكانت المرأة فيما قبل مستقرة في بيتها تعنى بتربية أولادها، والقيام بشؤون زوجها، وكانت تقوم مقام المعلم بين أبنائها مشتركة مع الرجل في ذلك.. أما في هذه الصورة فقد خرجت الزوجة لتقوم بأعمال تشابه أعمال الرجل، وأصبحت شؤون المنزل والقيام بمهامه عملاً ثانوياً بالنسبة لها. وأصبحت المرأة في كثير من الدول ترى أن إنجاب الأطفال يتعارض مع قيامها بتولي الوظائف العامة، الأمر الذي نجم منه تحديد النسل، وعدم التفكير في إنجاب الأطفال.
ومما لا شبهة فيه أن المرأة مسؤولة عن تهيئة الجو الاجتماعي والنفسي لنشأة الأطفال نشأة سليمة متكاملة، وقد نجم من تخيّلها عن هذه الوظيفة كثير من المضاعفات السيئة، وكان من أهمها انهيار الأسرة، فقد أصبح التقاء المرأة بزوجها وأطفالها التقاءً سريعاً، وأصبحت الأسرة في نظر الكثيرين أكثر شبهاً (باللوكاندة) من دون أن يوجد ذلك الرباط الاجتماعي والنفسي الذي يربط بين أفراد الأسرة، والذي يدعوهم دائماً إلى وضع مصلحة الأسرة فوق كل اعتبار. (الأسس الاجتماعية: ص72)
إن خروج المرأة من البيت قد أوجب حرمان الطفل من التمتع بحنان أمه، وذلك لمزاولتها العمل، وتركه لها أكثر الوقت، ومن الطبيعي أن تغذيته الاصطناعية وتعهد المربية لشؤونه لا يسد مسدّ حنان الأم وعطفها، فقد أثبتت التجارب العلمية أن الطفل لا ينمو، ولا يترعرع على حليب أمه، فحسب بل على عطفها وحنانها، وهذا الغذاء العاطفي لا يقل أهمية عن الغذاء الجسدي في تنمية شخصيته ومن هنا جاءت أفضلية التغذية الطبيعية من ثدي الأم على التغذية الاصطناعية ففي الأولى يتمتع الطفل بأمرين هما الغذاء والحنان وأما التغذية الاصطناعية، فإنها تخلو غالباً من شعور الطفل بحنان أمه. ومن هنا يحسن في الأطفال الذي يحرمون من التغذية الطبيعية أن تضمهم أمهاتهم إلى صدورهن حسب ما ينصح به أطباء الأطفال. (أسس الصحة النفسية: ص75)
وعلى أي حال فإن الطفل لا ينشأ نشأة سليمة إلا إذا أخذ حظه من الحب والحنان من أمه، وهو ـ في الغالب ـ قد حرم من هذه الجهة حين انعزال المرأة عن التربية.
وقد نعى على المرأة خروجها من بيتها جمع كبير من علماء التربية والاقتصاد والنفس، ونعرض لكلماتهم من دون أن نعلّق عليها.
يقول الفيلسوف الكبير برتراند رسل: (إن الأسرة انحلت باستخدام المرأة في الأعمال العامة، وأظهر الاختبار أن المرأة تتمرد على تقاليد الأخلاق المألوفة). (الإسلام والحضارة العربية، ج2، ص92)
ويقول العالم الاقتصادي جون سيمون: (النساء قد صرن الآن نسّاجات وطبّاعات، وقد استخدمتهن الحكومة في معاملها، وبهذا فقد اكتسبن بضعة دريهمات، ولكنهن في مقابل ذلك قد قوّضن دعائم أسرهن تقويضاً. نعم إن الرجل صار يستفيد من كسب امرأته، ولكن إزاء ذلك قلّ كسبه لمزاحمتها له في عمله.. (مجلة المجلات: ص17)
ويقول العالم الاجتماعي أوجست كونت، جواباً عن سؤال قدمته (هيركور) تسأله عن رأيه في المرأة فأجابها: (إن حالة المرأة في الهيئة الاجتماعية إذا جرت على النسق الذي تريدينه، كما هو حالة الرجل، فيكون أمرها قد انتهى فإنها تصير مستعبدة مملوكة). (دائرة معارف وجدي: ج8، ص605-606)
وتقول الكاتبة (أني رورد): (لأن تشتغل بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم خير وأخف بلاءً من اشتغالهن في المعامل حيث تصبح البنت ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد، ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة، والعفاف والطهارة... الخادمة والرقيق يتنعمان بأرغد عيش ويعاملان كما يعامل أولاد البيت، ولا تمس الأعراض بسوء. نعم إنه العار على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال، بالناس لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها الطبيعية من القيام في البيت وترك أعمال الرجال سلامةً لشرفها..). (مجلة المنار: ج4، ص486)
يقول الأستاذ شفيق جبري: (إن المرأة في أمريكا أخذت تخرج من طبيعتها في مشاركتها للرجل في أعماله، إن المشاركة لا تلبث أن تتضعضع بها قواعد الحياة الاجتماعية، فكيف تستطيع المرأة أن تعمل في النهار، وأن تعنى بدارها وبأولادها في وقت واحد، فالمرأة الأمريكية قد اشتطت في هذا السبيل اشتطاطاً قد يؤدي في عاقبة الأمر إلى شيء من التنازع بينها وبين الرجل). (أرض السحر)
يقول سامويل سمايلس: (إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل مهما تنشأ عنه من الثروة للبلاد، فإن نتيجته هادمة لبناء الحياة المنزلية لأنه يهاجم هيكل المنزل، ويقوّض أركان الأسرة، ويمزق الروابط الاجتماعية..). (نظرية العلاقة الجنسية في القرآن الكريم: ص94-95)
تقول السيدة أمينة السعيد: (إن الجهل ما زال منتشراً في النساء، وإن التشريعات العائلية بصورتها الراهنة أحق بالعلاج من دخول البرلمان.. والبيت في رأيي جنة، ما بعدها جنة، واستقرار المرأة فيه يعادل آلاف الحقوق السياسية..). (علمتني: ص24)
هذه بعض الآراء التي أدلى بها جمع من المفكرين ـ وهي من دون شك ـ تحمل طابعاً كبيراً من السمة العلمية، فإن خروج المرأة من بيتها، ودخولها في المعامل، ومزاحمتها للرجل في عمله واقتصاده مما أدى إلى عجزها عن القيام بوظيفتها في تربية النشء فإنها لم تعد إلى المنزل إلا وقد أضناها العمل واستنزفت الأتعاب جميع قواها، فكيف تتمكن من تربية أطفالها تربية سليمة، ومن الطبيعي أن ذلك يشكل خطراً جسيماً على النشء يعرّضه إلى الإصابة بكثير من الأمراض النفسية، وعدم الاستقامة في سلوكه، حسب ما دلّل عليه علماء التربية والنفس.
والشي الخطير الذي يهدد كيان الأسرة في جميع أنحاء العالم، هو تضاؤل نسبة الزواج وانخفاضه إلى حد كبير، فإن الحضارة المادية الحديثة قد جعلت المرأة متاعاً رخيصاً، وسلعة مبتذلة، حتى امتنع الكثيرون من الشباب عن الزواج لأن ما ينشدونه من المتعة الجنسية قد صار بمتناول أيديهم فإذن لماذا يقدمون على الزواج ويعانون أعباءه وأثقاله.
يقول الشيخ بهي الخولي:
(يمتنع الشباب عن الزواج، لأن الزواج قيد يحجزه عن الخوض فيما شاء من اللذة المتجددة، فقد أقبلت عوامل التطور الحديث على كثير من المجتمعات الغربية بحريات واسعة في الفكر والقول، والعقيدة والسلوك الخاص وأنشأت لهم أهدافاً في المال، والمنفعة واللذة الحسية تعارض ما كان لهم من أهداف روحية، ومقاييس لمعاني العرض والعفة، وصار لكل منهم حريته الواسعة في حياته الخاصة يفعل منها ما يريد دون رقابة من قانون أو تحرج من عرف، بل يفعل ما يريد بتحريض من العرف وعطف من المجتمع.
وكان من ذلك أن تفجّرت الشهوات، وسادت عبادة الجنس، وراج جنون اللذة يستبد بألباب كثير من أفراد تلك المجتمعات، فرأوا في الزواج قيداً يحد من حرياتهم في ابتغاء ما يريدون، فنبذوا حياة الأسرة، وركنوا إلى المخادعة، كلما فترت رغبة أحدهم في خليلته أو فترت رغبتها فيه انصرف كل منهما عن صاحبه حيث يجد اللذة في رغبة جديدة وشوق أشد.
ولا شك أن ذلك يفضي إلى قلة النسل أي تناقص عدد السكان، وضعف الأمة في مقوماتها المادية ومقوماتها المعنوية، وقد ظهرت آثاره السيئة منذ عشرات السنين في بعض البيئات الأوربية، وأخذت في الازدياد والاتساع حتى شملت كثيراً من الدول.
وها نحن نرى كثيراً من علماء الاجتماع يدقون نواقيس الخطر، وينذرون أممهم ـ إذ تُهمل حياة الأسرة ـ سوء المصير، بانهيار الأخلاق وانحلال روابط المجتمع، وانقراض النسل، ولقد وفق المارشال (ربيتان) غداة احتلال الألمان لفرنسا في الحرب العالمية الأخيرة، إذ ينادي قومه إلى الفضيلة، ويعزو الهزيمة إلى هجر حياة الأسرة فكان مما قاله:
(زنوا خطاياكم فإنها ثقيلة في الميزان، إنكم نبذتم الفضيلة، وكل المبادئ الروحية، ولم تريدوا أطفالاً، فهجرتم حياة الأسرة، وانطلقتم وراء الشهوات).
إن الدولة ـ باسم الإسلام ـ مكلفة أن تعني أعظم العناية بإنشاء الأسر، وحياطتها، وتوفير ضمانات الاستقرار لها، وتحسّن ما تلده الظروف الاقتصادية والثقافية والسياسية من آثار تمسها، نعم هي مسؤولة عن ذلك مسؤوليتها عن التموين والتعليم والدفاع، وما أشبه هذه الأغراض التي لا يمكن تركها للأفراد لأنها من صميم عمل الدولة..). (حقوق الإنسان، ص115-116)
وكان لتضاؤل نسبة الزواج وانخفاضه آثاره السيئة التي تهدد كيان الأسرة بالدمار والانحلال، واضطراب السلوك بين أفرادها، ومن أخطر آثاره إشاعة الشذوذ الجنسي، وانتشاره بين الناس، ومن الطبيعي أنه ليس شيء أخطر على الإنسانية، ولا أفتك بها من إشاعة الفوضى الجنسية فيها حيث تضيع الأنساب، وتنهار قواعد الأخلاق، وقد وضع الإسلام جريمة الزنا في صف الشرك بالله، وقرنها مع جريمة قتل النفس التي صانها الله وتوعّد بالخلود في النار لمن يقترفها قال تعالى: (وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً) (سورة الفرقان: 68-70).
لقد وضع الإسلام السدود والحواجز أمام جريمة الزنا فأمر بإخفاء الزينة صيانة للمرأة قال تعالى: (وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا) (سورة النور: 30).
وحرم إثارتها الانتباه والتدليل على جمالها وزينتها، قال تعالى: (وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) (سورة النور: 30).
كما منع من خلو الرجل مع المرأة الأجنبية، قال الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله): (لا يخلونّ أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم) (صحيح البخاري).
وحرّم ملامسة المرأة الأجنبية ففي الحديث (لأن يُطعن أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له). (البيهقي)
وجعل صلاة المرأة في بيتها كصلاتها في المسجد كل ذلك صيانة لها من الاختلاط الذي يدفعها إلى السقوط في حمأة الرذائل، وفقدانها لكرامتها وعزتها وشرفها.
إن الإسلام بجميع أجهزته وطاقاته يحارب الشذوذ الجنسي، ويحارب الفوضى الغريزية ويناهض جميع الوسائل التي تؤدي إلى سقوط المرأة في حمأة الرذائل، ويطالب بالنهوض بها إلى أرقى المستويات، يريد أن تكون ربة عائلة، ومربية جيل، وسيدة كريمة تحاط بهالة من العزة والكرامة... ولكن الحضارة المادية الحديثة قد أغرت المرأة، وحببت لها الإثم والفجور فأخرجتها من ذلك الميدان المشرق إلى حياة كريهة تحفها الضعة والهوان ووخز الضمير.
لقد سرت في العالم الغربي موجات رهيبة من الفوضى الجنسية، فلم تعد المرأة الغربية تعرف معنى للعفة والكرامة، والحياء والأمانة، ولم تفقه بحكم تربيتها الحديثة أي مغزى أصيل لهذه الحياة سوى إشباع رغباتها الجنسية وقد انتشر البغاء في الغرب انتشاراً فظيعاً تندى له جبين الإنسانية، انتشر في المنتديات والمعاهد والمحلات العامة، ولم يعد ذلك أمراً قبيحاً ينكره المجتمع أو ينفر منه، فقد تسالم على تشجيعه وإقراره.
يقول بولا بيورو:
(إن هذا العمل ـ أي احتراف البغاء ـ قد أصبح في زماننا نظاماً محكم التركيب يجري بما شئت من التنظيم في أيدي الموظفين، والعاملين المأجورين، ويعمل فيه أرباب القلم وناشرو الكتب، والخطباء، والمحاضرون والأطباء والقابلات والسياح التجاريون، ويستعمل له كل جديد من فنون النشر والعرض والإعلان).
ويقول جورج أسكان:
(أصبح تعاطي الفجور، وعدم التصون واتخاذ الأطوار السوقية معدوداً عند فتاة العصر من أساليب العيش المستجدة).
وقد عجت صحفهم اليومية والسياسية ومجلاتهم وكتبهم بإغراء المرأة ودفعها إلى التجارة بجسدها، وخلعها لثوب العفة والطهارة، وقد نجم من ذلك تسيب المرأة وتحللها، واندفاعها وراء الشهوات والمغريات كلما ملّت من رفيق، اتخذت خدناً آخر لها، وقد فسدت بذلك شؤون الأسرة، وعم الاضطراب والانحراف جميع أعضائها.
إن البغاء آفة كبرى على المجتمع، فإنه من أهم العوامل التي تنخر في كيانه وتقضي على أصالته وتماسكه، فالمجتمع الذي يصاب بهذا الداء الوبيل تنتشر فيه الأمراض الزهرية كالقرحة الرخوة، والسفلس، والسيلان المنوي، وهي مما توجب تدمير الصحة العامة، وتعريض الإنسان للإصابة بكثير من الأمراض المهلكة، كما تقضي على تماسك الشخصية، وإزالة جميع أرصدتها الأخلاقية والأدبية.
لقد انتشر هذا الداء في كثير من مناطق العالم، فالمستشفيات، والمؤسسات الصحية، ودور عيادات الأطباء الخاصة تستقبل كل يوم سيلاً عارماً من المصابين به، وبالرغم من المعالجات الحديثة له كالبنسلين وغيره، فإنه قد انتشر بصورة هائلة، وكان من آثاره الإصابة (بالهستريا) وقد ضجت المستشفيات العقلية بالمصابين من جرائه، كما كثرت عدد ضحاياه في العالم، وهو في نفس الوقت يحول دون نمو الاقتصاد العام الذي يتوقف على ازدهار الصحة، وتقدمها في البلاد، كما يستهلك قسماً كبيراً من الاقتصاد العام لشراء الأدوية والعقاقير لإسعاف المصابين، وإنقاذهم مما هم فيه.
ومن مظاهر الشذوذ الجنسي تفشي الحبوب المسقطة للحمل، وانتشارها بين الفتيات اللاتي يمارسن البغاء، ويخشين من الحمل، وقد انتشر ذلك بصورة مؤسفة في الجامعات والمعاهد الغربية فقد كثر فيها الإجهاض والسقط ومن الطبيعي أن لذلك أثراً كبيراً على صحة المرأة وإرهاقها مضافاً لتقليله للنسل ومن نتائج هذا الانحراف والشذوذ كثرة اللُّقطاء فقد فحشت هذه النسبة في عواصم الغرب، واهتمت الحكومات هناك ببناء الملاجئ لاستقبال هذا البشر المنكوب، الذي يفقد العطف الأبوي، وهو يمنى بكثير من العقد النفسية ـ كما يقول علماء النفس ـ ومن أخطر ما يصاب به أنه يمنى بقساوة الخلق والطبع والضغينة على المجتمع... هذه بعض الأخطار التي تنجم عن الفوضى الجنسية، وهي تهدد الأسرة بأمواج من الآثام الطاغية حتى ليوشك أن تغرق فيها.
ومن مظاهر ما منيت به الأسرة من الانحلال ـ في هذه العصور ـ انفصال الأبناء عن آبائهم انفصالاً متميزاً في الرأي والعقيدة والاتجاه، فقد عملت التربية الحديثة بما تملك من طاقات مادية وحضارية على الزهد والتشكيك بقيم الآباء وعاداتهم وأفكارهم، وأصبح الأبناء ناقمين على مثل آبائهم وقيمهم، ونتج من ذلك نضال فكري وثوري على المثل القديمة، والنبذ لكل ما يعتنقه الآباء من القيم والتقاليد الاجتماعية، كما نتج صراع آخر عنيف وحاد فيما بينهم، فالآباء دوماً يشكون ما يعانونه من عقوق أبنائهم، وسوء آدابهم، ويحكون صوراً متنوعة من جفائهم، وعدم حشمتهم، ومقابلتهم بالقسوة والحرمان.
يقول المربي (جون ديوي):
(ومن البعث أن نندب ذهاب تلك الأيام القديمة السعيدة على مناقب أولادنا، والحشمة، والاحترام والطاعة الخلقية إذ النوح لا يعيد الذاهب، وبكاء ما فات يزيد الحسرات، فإن التغييرات الحادثة نتائج نواميس طبيعية، ولا يقابلها إلا تغيير كاف في التهذيب...).
وهو رأي وثيق للغاية فإن التغييرات الحادثة في نظام الأسرة وغيرها من الأنظمة التربوية والاجتماعية قد أوجبت تمرد الأبناء، وخروجهم من حدود الطاعة وهيهات أن تعود إلى الطبيعة الأولى من دون أن يكون هناك تهذيب للطباع، وتهذيب للغرائز، وغرس للنزعات الخيرة في أعماق النفوس.
ومنيت كثير من الأسر الحديثة بألوان فظيعة من التحلل والانحراف. فقد أسرفت في التفنن بأنواع الملذات والمحرمات مما أدى إلى انهيار الأخلاق، وانحطاط السلوك. ومن الطبيعي أن الانسياق وراء اللهو يخلق جيلاً غير متماسك لا يعنى بالقيم الإنسانية ولا بالمثل الاجتماعية، فالطفل الذي يشاهد أبويه، وهما عاكفان على إدمان الخمر، وتبادل الرذائل فإنه حتماً يتأثر بذلك في سلوكه توجيهه.
يقول بعض الباحثين في الشؤون التربوية:
(لقد أصبحت الأسرة جواً مخزياً للتربية بصورة عامة لأن الآباء والأمهات في العصر الحديث قد تجاوزوا الحد المقرّر في السذاجة أو العصبية أو الضعف أو الشدة، وربما يعلّم أكثرهم بعض العيوب لأطفالهم.
أكثر الأطفال الذين يجدون صوراً مختلفة عن سوء الأخلاق والفساد، والمشاكسة والسكر في البيت والأسرة، والكثيرون منهم إن لم يجدوا مثل هذه القضايا في البيت فلابد وأنهم تعلّموها من أصدقائهم. فيمكن القول بلا مبالغة أن كثيراً من الآباء والأمهات في العصر الحديث يجهلون تربية أطفالهم مهما كانت الطبقة التي ينحدرون منها. والمدارس أيضاً لا تستطيع أن تؤدي واجبها لأن الأساتذة لا يختلف سلوكهم عن سلوك الأبوين كثيراً...).
إن انحراف الناشئة وفساد سلوكها يستند ـ على الأكثر ـ إلى ميوعة الأسرة وتحللها، ولا نعدو الصواب إذا قلنا إن كفة إصلاح الأسرة يفوق سائر العوامل التربوية الأخرى فهي المدرسة الأولى التي تؤثر أثراً مباشراً على السلوك والتوجيه
وأقام الإسلام نظام الأسرة على أسس سليمة تتفق مع ضرورة الحياة وتتفق مع حاجات الناس وسلوكهم، واعتبر الغريزة العائلية من الغرائز الذاتية التي منحها الله للإنسان قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) - سورة الروم: 20 – فهذه الظاهرة التي فطر عليها الإنسان منذ بدء تكوينه من آيات الله ومن نعمه الكبرى على عباده.
وشيء آخر جدير بالاهتمام هو أن الإسلام يسعى إلى جعل الأسرة المسلمة قدوة حسنة وطيبة تتوفر فيها عناصر القيادة الرشيدة قال تعالى حكاية عن عباده الصالحين: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) - سورة الفرقان: 74 - وأهم قاعدة من قواعد التربية أن توجد عملياتها التربوية القدوة الحسنة، والمثل الأعلى للخير والصلاح.
وقد ألمعنا في بحوث الوراثة إلى اهتمام الإسلام البالغ على أن تقوم الرابطة الزوجية على الاختبار والفحص حذراً من أن يكون أحد الزوجين مصاباً ببعض العاهات فتسري إلى أبنائهم فينشأ في المجتمع أفراد مشوهون في سلوكهم واتجاهاتهم، كما جعل الإسلام لأب الفتاة ولاية عليها، وشرّك بينهما في اختيار الزوج الصالح لها حذراً من أن تختار بمفردها زوجاً من ذوي العاهات فتجر لنفسها الويلات والشقاء، وتبتلي منه بذرية طالحة تشقى ويشقى بهم المجتمع، ومن الطبيعي أنها لا تحسن اختيار الزوج الصالح لها فإنها لا تعلم من الحياة إلا قشورها، وهي تحكم على خطيبها بما يبديه لها من حديث مصطنع ووعود خلاّبة، وما ينمقه لها من رسائل الغرام، أو ما يتمتع به من حسن الصورة والتجميل والتزيين بالأزياء المغرية وهي ـ بصورة جازمة ـ لم تطلّع على مكر الحياة وخبث الفاسقين، وكيد العاشقين، ولم تعرف كذب الوعود، ورياء العهود، ولم تفقه أن الزواج السعيد الذي يحقق أحلامها وآمالها إنما يكون إذا اقترنت برجل شريف النفس كريم الخلق، صادق الإيمان حتى يعني بشؤونها وحقوقها، وتنجب منه الذرية الطيبة التي تكون قرّة عين لها في حال كبرها وشيخوختها... وهذا هو ما يريده الإسلام لها.
وعلى أي حال فإن نظام الأسرة الذي سنّه الإسلام يقوم على أساس من الوعي والعمق لما تسعد به الأسرة، ويؤدي إلى تماسكها وترابطها من الناحية الفيزيولوجية، والنفسية، والاجتماعية، بحيث ينعم كل فرد منها، ويجد في ظلالها الرأفة والحنان والدعة والاستقرار.
إن الإسلام يحرص كل الحرص على أن تقوم الرابطة الزوجية ـ التي هي النواة الأولى للأسرة ـ على المحبة، والتفاهم والانسجام، وهو الزواج المثالي الذي عناه (هاميلوك اليس) بقوله: (لا يقوم الزواج المثالي حقاً على توافق الشهوة فقط، وإنما يقوم على اتحاد غير شهواني، أساسه مودّة عميقة تتوثق على ممر الأيام وتشمل شتى نواحي الحياة، وهو اتفاق الأذواق، والمشاعر والميول، وهو اتفاق على الحياة المشتركة، بما قد تستلزمه من أعباء الأبوة). (التربية الجنسية: ص28)
وهذا هو ما ينشده الإسلام في الرابطة الجنسية أن تكون مثالية، وتقوم على أساس وثيق من الحب والتفاهم حتى تؤدي العمليات التربوية الناجحة أثرها في تكوين المجتمع السليم.
لقد شرع الإسلام جميع المناهج الحية الهادفة إلى إصلاح الأسرة ونموّها وازدهار حياتها، فعني بالبيت عناية خاصة، وشرع آداباً مشتركة بين أعضاء الأسرة، وجعل لكل واحد منها واجبات خاصة تجاه أفراد أسرته، وهي مما تدعو إلى الترابط، بالإضافة إلى أن لها دخالة إيجابية في التكوين التربوي... ولابد لنا من عرض ذلك، على سبيل الإيجاز.
وللبيت أهميته البالغة في التربية، فمن طريقه تحقّق البيئة الاجتماعية آثارها التربوية في الأطفال، فبفضله تنتقل إليهم تقاليد أمتهم، ونظمها، وعرفها الخلقي، وعقائدها وآدابها وفضائلها، وتاريخها، وكثير مما أحرزته من تراث في مختلف الشؤون، فإن وفق المنزل في أداء هذه الرسالة الجليلة حققت البيئة الاجتماعية آثارها البليغة في التربية، وإن فسد المنزل، فإن الطفل حتما يفسد، ولا تكون له أية شخصية. إن المنزل يقوم بأكثر من دور في حياة الطفل، فهو المنبع الطبيعي للعطف والحنان، فمنه يستمد حياته المطمئنة الهادئة.. (عوامل التربية: ص90، التعليم: ص87، الأسرة والمجتمع: ص19)
وقد عني الإسلام به عناية خاصة فأمر بأن تسود فيه المحبة والمودة، وترك الكلفة، واجتناب هجر القول ومرّه، فإن لذلك أثراً عميقً في تكيّف الطفل، وإذا لم يوفق البيت لأداء مهمته، فإن الطفل يصاب بانحرافات خطيرة، منها القضاء على شعوره بالأمن، وتحطيم ثقته بنفسه، وغير ذلك مما نص عليه علماء النفس.
وجعل الإسلام مناهجاً مشتركة بين جميع أعضاء الأسرة، ودعاهم إلى تطبيقها على واقع حياتهم حتى تخيّم عليهم السعادة، ويعيشون جميعاً في نعيم وارف وهي:
1ـ الحب والمودة:
دعا الإسلام إلى سيادة الحب والمودة والتآلف بين أفراد الأسرة وأن يجتنبوا عن كل ما يعكر صفو الحياة والعيش، وتقع المسؤولية بالدرجة الأولى على المرأة فإنها باستطاعتها أن تحوّل البيت إلى روضة أو جحيم، فإذا قامت بواجبها، ورعت ما عليها من الآداب كانت الفذة المؤمنة فقد أثر عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن شخصاً جاءه فقال له: إن لي زوجة إذا دخلتُ تلقّتني، وإذا خرجت شيعتني، وإذا رأتني مهموماً قالت ما يهمك؟ إن كنت تهتم لرزقك فقد تكفل به غيرك، وإن كنت تهتم بأمر آخرتك فزادك الله هماً.
فانبرى (صلّى الله عليه وآله) يبدي إعجابه وإكباره بها وقال: (بشّرها بالجنة، وقل لها: إنك عاملة من عمال الله). (مكارم الأخلاق: ج1، ص229)
وإذا التزمت المرأة برعاية زوجها، وأدّت حقوقه وواجباته شاعت المودة بينها وتكوّن رباط من الحب العميق بين أفراد الأسرة الأمر الذي يؤدي إلى التكوين السليم للتربية الناجحة.
2ـ التعاون:
وحث الإسلام على التعاون فيما بينهما على شؤون الحياة، وتدبير أمور البيت وأن يعيشوا جميعاً في جو متبادل من الود والتعاون، والمسؤولية تقع في ذلك على زعيم الأسرة وهو الزوج، فقد طلب الإسلام منه أن يقوم برعاية زوجته ويشترك معها في شؤون منزله، فقد كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يتولى خدمة البيت مع نسائه، وقال: (خدمتك زوجتك صدقة) وكان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يشارك الصدّيقة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام) في تدبير شؤون المنزل ويتعاون معها في إدارته، ومن الطبيعي أن ذلك يخلق في نفوس الأبناء روحاً من العواطف النبيلة التي هي من أهم العناصر الذاتية في التربية السليمة.
3ـ الاحترام المتبادل:
وحث الإسلام على تبادل الاحترام، ومراعاة الآداب بين أعضاء الأسرة فعلى الكبير أن يعطف على الصغير، وعلى الصغير أن يقوم بإجلال الكبير وتوقيره، فقد أثر عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال في جملة وصاياه العامة: (فليعطف كبيركم على صغيركم، وليوقر صغيركم كبيركم..) إن مراعاة هذه الآداب تخلق في داخل البيت جواً من الفضيلة والقيم الكريمة، وهي توجب تنمية السلوك الكامل في نفس الطفل، وتبعثه إلى الانطلاق في ميادين التعاون مع أسرته ومجتمعه، وقد ثبت في علم التحليل النفسي بأن قيم الأولاد الدينية والخلقية إنما تنمو في محيط العائلة. (كيف تساعد أبناءك في المدرسة: ص
193
)..
وإذا منيت الأسرة بعدم الانسجام والاضطراب فإن أفرادها يصابون بآلام نفسية، واضطرابات عصبية، وخصوصاً الأطفال فإنهم يمنون بفقدان السلوك والانحراف، وقد ظهرت الدراسات والبحوث التربوية الحديثة أن من أهم الأسباب التي تؤدي إلى انحراف الأحداث هو اضطراب الأسرة وعدم استقرارها فتنشأ منه الأزمات التي تؤدي إلى انحرافهم. (المذنبون الصغار)
لذا من اللازم الحفاظ على استقرار الأسرة، وإبعادها عن جميع عوامل القلق والاضطراب حفاظاً على الأحداث، وصيانة لهم من الشذوذ والانحراف.
والأب ليس مسؤولاً عن الحياة الاقتصادية وتوفيرها لأبنائه فحسب، وإنما هو مسؤول عن تربيتهم، وتهذيبهم، وتأديبهم، وتوجيههم الوجهة الصالحة، وأن يعوّدهم على العادات الطيبة، ويحذّرهم من العادات السيئة. يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام):
(وأما حق ولدك، فتعلم أنه منك، ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره، وأنك مسؤول عمّا ولّيته من حسن الأدب، والدلالة على ربه والمعونة له على طاعتك فيك، وفي نفسه، فمثاب على ذلك، ومعاقب، فاعمل في أمره عمل المتزيّن بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا، المعذر إلى ربه فيما بينك وبينه بحسن القيام عليه، والأخذ له منه..). (تحف العقول: ص263)
وكان هذا الإمام العظيم يدعو لولده بهذا الدعاء: (اللهم.. واجعلهم أبراراً أتقياءً بصراءً سامعين مطيعين لك ولأوليائك محبين ناصحين، ولجميع أعدائك معاندين ومبغضين..). (الصحيفة السجادية)
إن الأب مسؤول عن تربية أبنائه تربية صالحة ليكونوا قرّة عين له في مستقبله، وكان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يعنون بهذه الجهة ويولونها المزيد من الاهتمام، يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) المربي الأول في الإسلام إلى ولده الإمام الحسن (عليه السلام): (وجدتُك بعضي بل وجدتك كلّي حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي..).
إن الولد ليس بعضاً من الأب بل هو نفسه يحكي وجوده وكيانه فعليه أن يهتم بشؤونه التربوية، وأن يعني في تهذيبه، وكماله ليكون فخراً وزيناً له، أما إذا أهمل تربيته، ولم يعن بشؤونه يغدو نقمة ووبالاً عليه..
ونعرض فيما يلي إلى بعض مسؤوليات الأب:
1ـ العناية بالأبناء:
على الأب أن يعني أشد العناية بأبنائه، وأن يوليهم المزيد من اهتمامه ويغدق عليهم العطف والحنان، ويقوم بتكريمهم أمام الغير فإن لذلك أثره الفعال في بناء كيانهم التربوي، وازدهار شخصيتهم ونموهم الفكري وعلى هذا الأساس الخلاّق كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يرعى سبطه وريحانتيه الحسن والحسين، فكان يحملهما ويقول: (هذان ريحانتيّ من الدنيا، من أحبني فليحبهما..). وكان يقول لبضعته سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام): (ادعي ابنَي، فتأتي بهما إليه فيشمهما ويضمهما إليه). (حياة الإمام الحسن: ج1، ص83)
وروي أن الأقرع بن حابس لما رأى شدة إقبال النبي (صلّى الله عليه وآله) على حفيديه قال له: إن لي عشرة من الأولاد، ما قبلت واحداً منهم..
فغاظ النبي ذلك وقال له: (ما عليّ إن نزع الله الرحمة منك). (مكارم الأخلاق: ج1، ص252)
لقد سكب النبي (صلّى الله عليه وآله) في نفس ولديه الحسن والحسين (عليهما السلام) مُثُله وهديه، وأفاض عليهما نزعاته الرحيمة حتى صارا بحكم تربيته من أروع أمثلة التكامل.. وقد حفلت سيرتهما الندية بكل مظاهر العظمة والخلود وكل ما تعتز به الإنسانية في جميع أدوار تاريخها، سمواً في الخلق، وسمواً في الذات، وانطلاقاً في ميادين الحق والخير، إن عناية الآباء بأبنائهم وإغداق اللطف والحنان عليهم من أهم المقومات للكيان التربوي الذي تزدهر به شخصية الطفل، ويكون بمنجى من العقد النفسية التي هي من أخطر الأمراض التي يصاب بها الإنسان... لقد أثبتت البحوث التربوية الحديثة أن المواطنين الصالحين، ورجال العلم الطيبين إنما يأتون من الأسر التي تعنى بالأطفال، وترغب فيهم. (التربية الطفل وسيكولوجيا الطفل، ص305)
وقد أكد علماء النفس هذه الظاهرة، كما ذكروا أن الأبناء المنبوذين من أسرهم يبدون سلوكاً عدوانياً، ويكونون سلبيين، مشاكسين، متمردين، وكثيراً ما يبرعون في ابتكار الحيل التي تضايق الكبار، كما يظهرون الميل إلى السلوك الإجرامي. (علم النفس التربوي: ج3، ص100)
أما مظاهر النبذ فهي:
1ـ القسوة في معاملة الطفل وأخذه بالشدة المسرفة.
2ـ استعمال العقاب البدني القاسي.
3ـ نقد الطفل نقداً مستمراً، وكشف معايبه له، وخاصة أمام الغير.
4ـ الإسراف في إهماله واتهامه.
5ـ عدم ذكره بخير.
6ـ الغض من شأنه بالقياس إلى أخوته.
7ـ إبداء الدهشة والاستغراب إذا ذكره بعض الناس بخير. (علم النفس التربوي: ج3، ص101-102)
فيجب على الآباء أن يبتعدوا في معاملة أبنائهم عن هذه الطرق الملتوية حفاظاً على سلوكهم، ووقاية لهم من الشذوذ والانحراف.
2ـ المساواة بينهم:
وينبغي للأب أن يغمر جميع أولاده بالحب ويساوي بينهم بالحنان، والعطف والرعاية، فإن اختصاص بعضهم بذلك، وحرمان الباقين منه مما يؤدي إلى العقد النفسية. والغيرة والحفيظة، ونشوب الثورات الانفعالية في نفوسهم، كما تجعلهم عرضة للإصابة بأمراض عصبية خطيرة.
وحكى القرآن الكريم قصة يوسف حينما آثره أبوه يعقوب، وميّزه على بقية أبنائه فأجمع رأيهم على الكيد له، فألقوه في غيابة الجب، وجاءوا أباهم عشاءً يبكون فحزن عليه يعقوب حتى ابيضت عيناه فهو من الحزن كظيم، وهذه المحنة الكبرى التي دهمته كانت نتيجة الأثرة، وتقديمه ليوسف على أخوته، وقد أثر عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (اعدلوا بين أولادكم في السر، كما تحبون أن يعدل بينكم في البر واللطف).
ونظر (صلّى الله عليه وآله) إلى رجل له ابنان فقبّل أحدهما وترك الآخر، فنهره (صلّى الله عليه وآله) وقال له: (هلاّ ساويت بينهما). (مكارم الأخلاق: ج1، ص252)
إن المساواة بين الأبناء عنصر من عناصر التربية الإسلامية، فليس للأب أن يميّز بعض أبنائه على بعض، كما أنه ليس من الإسلام في شيء أن يخص أبناءه بعطفه وإحسانه، ويحرم بناته من ذلك، أو يخص بعض أبنائه بشيء من أمواله ويحرم الباقين فإن ذلك يؤدي إلى نشوب العداء والكراهية فيما بينهم، بالإضافة إلى أنه يسبب تأخراً في كيانهم التربوي، كما يؤدي إلى اضطرابهم النفسي، وعدم تفاعلهم مع بقية أفراد المجتمع.
والظاهرة الغريبة، في الطفل الذي يفقد العطف الأبوي أنه يحمل في نفسه عقداً نفسية وضغينة على المجتمع، وقساوة في الخلق، وأنه يصاب بما يلي:
1ـ الكذب.
2ـ السرقة.
3ـ القسوة.
4ـ الشرور.
5ـ الهجوم على الغير.
يقول (ولالبري): إن الكره الأبوي للطفل يستطيع دائماً أن يعوق الطفل عن التكيف في الحياة، وذلك بالقضاء على شعوره بالأمن، وتحطيم ثقته بنفسه، وقد أثبتت البحوث النفسية الحديثة أن من أهم أسباب القلق يرجع إلى انعدام الدفء العاطفي في الأسرة، وشعور الطفل بأنه شخص منبوذ محروم من الحب والعطف والحنان، وأنه مخلوق ضعيف يعيش وسط عالم عدواني، كما أنه عدم العدالة بين الأخوة توقظ مشاعر القلق في نفسه ويقتل فيه روح البصيرة التي تعينه على أن يشق طريقه في يسر وطمأنينة والرجل القلق دوماً يحس بالهلاك والعذاب النفسي أينما وجد. (التكيف النفسي: ص21-22)
على الآباء أن يعدلوا بين أبنائهم، ويجنبوهم هذا الداء الخطير الذي ينخر في كيانهم النفسي.
3ـ إشاعة الود:
على الأب أن يغمر بيته بالود والعطف، ويشيع بين أهله الحب والحنان، وأن يقابل خصوص زوجته بالإحسان، ويوفر لها جميع ما تحتاج إليه فإن ذلك ـ أولاً ـ من حقوقها الطبيعية التي فرضها الله ـ وثانياً ـ أنه يبعث على التربية الصحيحة للطفل وازدهار شخصيته، لأنه يعيش في جو من الحب والدعة والاستقرار... وحث الإسلام على مراعاة الزوجة، يقول الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله): (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي). وقال (صلّى الله عليه وآله): (عيال الرجل أسراؤه، وأحب العباد إلى الله عز وجل أحسنهم صنيعاً إلى أسرائه..).
وقال الإمام الباقر (عليه السلام): (رحم الله عبداً أحسن فيما بينه وبين زوجته فإن الله عز وجل قد ملّكه ناصيتها، وجعله القيم عليها..).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (اتقوا الله في الضعيفين ـ يعني المرأة والمملوك..).
كما أن على الأب أن لا يتطاول على أهله، وأن لا يظلمهم، فقد أثر عن الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (خير الرجال من أمتي الذين لا يتطاولون على أهليهم، ويحنون عليهم، ولا يظلمونهم، ثم قرأ قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ..). (مكارم الأخلاق: ج1، ص248)
إن طبيعة الأب، ومعاملته لأسرته تترك أعمق الأثر في تكيف الطفل فإن كانت معاملته حسنة ازدهرت شخصية الطفل، وإن كانت سيئة تركت في سلوكه أسوأ الأثر، وأوقفت نموه الفكري.
4ـ اجتناب فحش القول:
والأب باعتباره عميد الأسرة فهو مسؤول عن إقامة الكيان التربوي فيها، وعليه أن يجتنب فحش القول، وبذاءة الكلام، وكل ما يخل بالآداب العامة، وإن يقيم في بيته العفة والطهارة، ويجنب أهله المنكر وسيئ القول فإن كلامه وسيرته تنفذ إلى أعماق قلوب أبنائه، وتنطبع فيها سيرته وأخلاقه.
إن الطفل لا ينشأ نشأة سليمة، وهو يشاهد أبويه يفعلان المنكر، ويقترفان الإثم، وإن الأب الذي يكذب ويطلب من طفله أن يكون صادقاً فإنه لا ينصاع لقوله، وإنما يتبع عمله وسيرته...على الأب إذا أراد أبناءه أن يكونوا قرّة عين له في مستقبله فعليه أن يطبق على واقع حياته الصفات الكريمة وأن يسير سيرة طيبة ليكون قدوة حسنة لأهله وغيرهم.
5ـ مراقبة سلوك الأبناء:
إن الجرائم الأخلاقية التي تصدر عن الأحداث كثيراً ما تنشأ من عدم مراقبة آبائهم، وإهمالهم لما يصدر منهم من شذوذ وانحراف، ومن الطبيعي أن الطفل الذي لم يكتمل وعيه ولا رشده لا يميز بين الخير والشر، فإنه حينما يرتكب القبيح، ويرى غض النظر عنه أو قراره له، فإنه يتمادى في الشر والإثم حتى ينطبعا في نفسه، ويصبحا عادة له.
لقد حث الإسلام على مصاحبة الأبناء في سنهم المبكر، ومراقبة سلوكهم خوفاً عليهم من التلوث بالجرائم التي تسبب انحرافهم عن السلوك النير. ومن المؤسف إهمال الآباء ـ في هذه العصور ـ لهذه الجهة التي يتوقف عليها مصير الأبناء في مستقبلهم، وقد أدى هذا الإهمال الفظيع إلى التسيّب والانحلال الذي مني به أكثر الأبناء، فقد أصبح التهوّر والشذوذ طابعاً لهم في كثير من سلوكهم، وأخلاقهم.
ومن أبشع ألوان الإهمال، وأكثرها انحرافاً عن المناهج التربوية الصحيحة ترك الآباء لبناتهم مع زملائهن في الدراسة في المعاهد والكليات وهم في سن مماثلة من دون أن تكون منهم أية مراقبة، ومن الطبيعي أن ذلك يؤدي في كثير من الأحيان إلى سقوط عفة الفتاة، وانحرافها عن موازين الاستقامة في سلوكها.
وعلى أي حال فإن الأب مسؤول أمام الله عن مراقبة سلوك أبنائه وإبعادهم عن جميع النزعات الشريرة، يقول الغزالي:
(اعلم أن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها، والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة خالية عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، وماثل إلى كل ما يمال إليه، فإن عُوّد الخير وعلمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم ومؤدب، وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيّم عليه، والوالي له، وقد قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) ومهما كان الأب يصونه عن نار الدنيا فبأن يصونه عن نار الآخرة أولى، وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق، ويحفظه عن قرناء السوء، ولا يعوده التنعّم، ولا يحبّب إليه الزينة، وأسباب الرفاهية فيضيع عمره في طلبها إذا كبر فيهلك هلاك الأبد، بل ينبغي أن يراقبه من أول أمره، فلا يستعمل في حضانته وإرضاعه إلا امرأة صالحة متدينة تأكل الحلال فإن اللبن الحاصل من الحرام لا بركة فيه فإذا وقع عليه نشوء الصبي عجنت طينته من الخبث فيميل طبعه إلى ما يناسب الخبائث..). (تاريخ التربية: ص82)
ورأي الإمام الغزالي رأي وثيق للغاية تؤكده البحوث التربوية الحديثة فإن مراقبة الطفل في سنة المبكر وتعويده العادات الطيبة وإبعاده عن النزعات الشريرة تؤدي إلى سعادته ونجاحه في الدنيا والآخرة كما أن إهماله وعدم مراقبته مما يؤدي إلى شقائه وهلاكه.
6ـ تأديب الأطفال:
إن واجب الأب الإسراع في تأديب أطفاله، إذا شذّوا في سلوكهم أو ارتكبوا ما يخالف التقاليد الدينية والاجتماعية، أو ما يجافي الآداب العامة فإن اللازم عليه الإسراع في تأديبهم بما يقلع روح الشر والتمرد منهم.. وقد كد الإسلام ذلك فقد أثر عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (لأن يؤدب أحدكم ولده خير له من أن يتصدق بنصف صاع كل يوم..). (مكارم الأخلاق: ج1، ص270)
وفي حديث آخر: (أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم يغفر لكم).
إن الشذوذ الذي يصيب الأطفال ويظل ملازماً لهم إنما هو ناتج ـ على الأكثر ـ من إهمال الآباء، وعدم قيامهم بتأديب أطفالهم إذا انحرفوا عن الطريق القويم.
يقول الشيخ النراقي: (إن الصبي إذا أهمل في أول نشئه خرج ـ في الأكثر ـ رديء الأخلاق والأفعال فيكون كذاباً حسوداً، لجوجاً عنوداً، سارقاً خائناً، ذا ضحك وفضول، وربما صار مخنثاً مائلاً إلى الفسق والفجور..). (جامع السعادات: ج1، ص270-271)
أما كيفية تأديبه فسوف نتحدث عنها في البحوث الآتية.
7ـ إبعاد الطفل عن العملية الجنسية:
ونهى الإسلام عن أن يغشى الرجل أهله أمام أبنائه فإن ذلك مما يوجب تهيّج الشهوة عندهم، وانطلاقهم في ميادين الدعارة والفجور، يقول الإمام الباقر (عليه السلام) لجابر: (إياك والجماع حيث يراك صبي يحسن أن يصف حالك). (طب الأئمة: ص135)
وقال الإمام أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): (لا يجامع الرجل امرأته ولا جاريته وفي البيت صبي، فإن ذلك مما يورث الزنا). (المحاسن: ص317، وسائل الشيعة: ج7، ص95)
وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (والذي نفسي بيده لو أن رجلاً غشي امرأته وفي البيت صبي مستيقظ يراهما، ويسمع كلامهما، ونفسهما، ما أفلح أبداً إن كان غلاماً كان زانياً أو جارية كانت زانية..). (فروع الكافي: ج2، ص58)
وقد أكد علماء التربية الجنسية ضرورة إبعادهم عن ذلك، يقول (سيرل بيسبي): (وما دامت الناحية الجنسية موجودة عند الجميع حتى عند الأطفال منذ مولدهم، ولو بقيت في حالة الكمون حتى سن البلوغ فمن المهم أن تتفادى الإتيان بأي عمل قد يستثيرها قبل أوانها، وثمة آباء لا يرون إبعاد الطفل عن الحجرة عندما يخلعون ملابسهم، ولكنهم يتمادون في هذا السبيل، ويظنون أن واجبهم يحتم عليهم ـ باعتبارهم ـ من التقدميين المجددين (أو المثقفين) أن يوفروا الفرص لكي نراهم عراة ولكن متى تكررت رؤية الطفل فإنها عن قريب تولد بدورها اهتماماً زائداً بخصائصه في نفسية الطفل). (التربية الجنسية: ص55)
إن نفسية الطفل سريعة التأثر والانفعال بما تراه، ولذلك كان من الضروري إبعاده عن كلّ ما يثير الشهوات وفساد الأخلاق صيانة له من الانحراف والشذوذ، ولما لم تعن التربية الغربية بذلك منيت أبناؤها بالانحلال النفسي وسائر المشكلات الجنسية، وتدهور الأخلاق، وانعدام الروابط الاجتماعية.
8ـ إبعاد الطفل عن تناول الحرام:
على الأب أن يحرص كل الحرص على تعويد أطفاله ـ منذ نعومة أظفارهم ـ على تناول الحلال وإبعادهم عما حرّمه الله كالمغصوب من الطعام أو نجس العين كلحم الخنزير، أو ما كان نجساً بالعارض كالطعام الذي يتلوث بالنجاسة الخارجية وغيرها مما ذكره فقهاء المسلمين في رسائلهم العملية.. فعلى الأب أن يسعى جاهداً في تعويدهم في ذلك فإن للتغذية أثراً فعالاً في سلوك الطفل، وتنميته حسب ما دلّت عليه البحوث الطبية الحديثة.
إن الإسلام شديد الحساسية بكل ما يعوق نمو الطفل، وازدهار شخصيته، والتغذية الملوثة بالحرام تؤثر أثراً ذاتياً في دخائل النفس، وتوقف فعالياتها السلوكية، فتغرس فيها النزعات الشريرة كالقسوة، والاعتداء والهجوم المتطرف على الغير... وقد راعى الإسلام باهتمام هذه الجوانب، فألزم بإبعاد الطفل عن الغذاء الحرام فقد أثر عن الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) أنه رأى ريحانته، وسبطه الأول الإمام الحسن (عليه السلام) قد أخذ من تمر الصدقة فجعلها في فيه، وكان طفلاً فزجره وقال له: (ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة..). (رياض الصالحين: ص147)
ولما حُملت عيال أبي الضيم الإمام الحسين (عليه السلام) أسرى إلى الكوفة بعد كارثة كربلاء الخالدة في دنيا الأحزان، انبرى بعض الكوفيين حينما رأى أطفال الإمام وهم يعانون آلام الجوع وقسوته فناولهم بعض التمر والجوز متصدقاً بها عليهم فزجرتهم السيدة أم كلثوم حفيدة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) وعرّفتهم أنها صدقة، وهي محرمة على أهل البيت فأسرعت الصبية إلى رميها من أفواهها..
ولمحافظة أهل البيت (عليهم السلام) على هذا السلوك النير في ميادين التربية نشأت فهيم تلك الناشئة الطيبة التي لم يعرف التاريخ مثيلاً لها صدقاً في القول، وعفة في السلوك، ونزاهة في القصد.
إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن بعض مسؤوليات الأب، وواجباته تجاه أبنائه ومن يعول به.
إن الأم هي المدرسة الأولى في بناء شخصية الطفل، وإكسابه العادات فإذا كانت مهذبة كريمة تم إنشاء جيل صالح. متّسم بالاتزان في سلوكه، وإذا لم تكن مهذبة فإن الجيل حتماً يصاب بالتحلّل، ويمنى بكثير من المفاسد.
إن الأم تتحمل مسؤولية اجتماعية كبيرة. فإنها مسؤولة عن مستقبل الأمة وصلاحها وانطلاقها، فهي بمهدها وحضانتها اللبنة الأولى في بناء الكيان التربوي الصالح أو الطالح.
إن أهم ناحية في تربية الطفل تستند إلى الأم، فهي التي تبني الأسس لاتجاهات الطفل وأخلاقه، وهي التي توجهه نحو الفضائل والطموح، والإقدام، والعمل والاعتماد على النفس... وهذه الأسس التي يكتسبها الطفل قبل الثامنة من عمره يصعب تبديلها كلياً فيما بعد ولذلك فإن أثرها في حياة الشعوب ورقيها كبير جداً فإذا اعتاد الولد أن يكون طموحاً ومقداماً ونشيطاً ومثابراً في أعماله، ويتقن ما يعمل فإنه من الطبيعي يكون ركناً قوياً لقيام شعب يتمتع بطاقات كبيرة لإنجاز الأعمال وبناء الحضارة المزدهرة. (الإدارة التربوية: ص9)
لقد توفرت في الأم بعض الدوافع الذاتية لرعاية الطفل وتربيته، ولعل من أهمها ـ فيما نحسب ـ هي:
1ـ إنها أصبر من غيرها على تربية أطفالها ورعايتهم لأنها مدفوعة بدافع فطري ذاتي، فقد أوجد الله في قرارة نفسها الحب العميق لأطفالها وجعلهم ثمرة لقلبها ومهجتها. ولولا ذلك لما أمكن أن يعيش الطفل ويحيا.
2ـ إنها أكثر درايةً وإمعاناً بأخلاق أبنائها ونفسياتهم، وأبصر بالوسائل السليمة التي تجدي في توجيههم بعثاً نحو الخير، وزجراً عن الشر.
3ـ إن الطفل يستجيب لأمه بحكم فطرته، وحاجته إليها، فهو يسعى جاهداً لتنفيذ رغباتها. وكسب رضاها.
هذه بعض الأمور التي تحمل الأم المسؤولية الخطيرة عن التربية الواعية لأبنائها.
• واجباتها
وعلى الأم التي تريد أن ترى من أبنائها قرة عين وذخيرة لها في مستقبلها أن تسهر على تربيتهم، وترعى سلوكهم، وتبث في نفوسهم النزعات الطيبة والمثل الكريمة، ونعرض فيما يلي لبعض المناهج التي ينبغي لها أن تطبّقها على واقع تربيتها:
1ـ تحبذ لهم كل سلوك طيب، وتلمسهم النتائج الشريفة التي تترتب على فعله، وتشجيعهم عليه بجميع طاقاتها.
2ـ أن تجنّبهم عن كل طريق إجرامي أو عادة سيئة، وتخوفهم من سلوك أي جهة لا تتفق مع العادات الدينية، والاجتماعية، وتدلل لهم على ما يترتب عليها من الضرر لهم، وللأسرة والمجتمع.
3ـ عليها أن تربى بناتها بالطهارة والعفة، وترشدهن إلى محاسن النساء الخالدات، وتحذرهن من الاستهتار وخلع الحجاب، وارتداء بعض الأزياء التي ترتديها الفتاة الغريبة التي لا تشعر بالعفة والكرامة... على الأم أن ترعى باهتمام أمر بنتها، فتراقبها، وتتفحّص شؤونها، حتى لا تتلوث بالأخلاق الفاسدة التي دهمت بلاد المسلمين، وغزت حياتهم الفكرية والعقائدية.
إن البنت أطوع لأمها من الولد، وأحرص منه على كسب رضائها وذلك لشدة حاجتها إليها، فعلى الأم أن تتعاهدها، وتصلح شأنها وتروّضها على إدارة المنزل وتشعرها بأعباء الحياة لتؤدي البنت في مستقبلها دوراً مشرقاً وتكون أمة طيبة لنشء آخرين.
4ـ أن لا تسرف في دلال أطفالها فإن لذلك من المضاعفات السيئة التي توجب تأخر التربية، وعدم قابلية الطفل في مستقبل حياته لتحمل مشاق الأمور ومصاعبها.
5ـ أن تشعر أبناءها بمقام أبيهم، ولزوم تعظيمه، واحترامه حتى يتسنى له القيام بتأديب من شذّ منهم، وإرغامه على السلوك الحسن.
6ـ على المرأة أن تجتنب المساءة مع زوجها، لأن ذلك يخلق جواً من البغضاء والكراهية بينهما، فيؤدي ذلك إلى اضطراب الطفل وشعوره بالمخاوف وخلق عقد نفسية عنده، وقد حث الإسلام المرأة على إرضاء زوجها وحرّم عليها إتيان ما يكره، فقد أثر عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (أيما امرأة آذت زوجها بلسانها، لم يقبل الله منها صرفاً ولا عدلاً، ولا حسنة من عملها حتى تُرضيه..).
وقال (صلّى الله عليه وآله): (أيما امرأة لم ترفق بزوجها، وحملته على ما لا يقدر عليه، وما لا يطيق منها لم تقبل منها حسنة، وتلقى الله، وهو عليها غضبان).
وقال (صلّى الله عليه وآله): (لا تؤدّي المرأة حق الله عز وجل حتى تؤدي حق زوجها).
وقال الإمام أبو جعفر (عليه السلام) (أيما امرأة قالت لزوجها: ما رأيت منك خيراً قط فقد حبط عملها). (مكارم الأخلاق: ج1، ص46-47)
إن واجب المرأة المسلمة إرضاء زوجها، ومسايرته، والاندماج معه واجتنابها عن كل ما يزعجه حتى تتمكن هي وإياه من القيام بتربية أطفالهم تربية صحيحة.
7ـ إذا شذّ بعض أبنائها، وسلك غير الجادة فواجبها إخبار أبيه ليقوم بتأديبه، وحمله على السلوك القويم، وليس لها إخفاء ذلك وحجبه عنه لأن الولد يتشجع على ارتكاب الرذيلة والمنكر، كما أنه ليس لها أن تمانع زوجها وتدفعه عن القيام بتأديب أولاده لأن ذلك يؤدي إلى تمردهم وفساد تربيتهم.
8ـ أن تبعد أطفالها عن الشوارع فإنها لا تخلو من المغريات، ودوافع السلوك المضاد للمجتمع، فقد أصبحت تعجّ بالمنحرفين والمصابين بأخلاقهم الذين هم مصدر لتلويث الأطفال، وجرهم إلى حمأة الرذائل والموبقات.
9ـ أن تمنعهم من الأسباب التي تؤدي إلى سقوط العفة والطهارة، وانهيار الأخلاق والآداب كقراءة الكتب، والروايات الخلاعية، ومراودة دور السينما الخليعة، ودور الرقص وغيرها من الأمور المثيرة التي توجب السقوط في حضيض الدعارة والمجون، وتقضي على تماسك الشخصية وانهيار تكاملها وتفاعلها مع المجتمع.
10ـ أن تحافظ على العفة وحسن السلوك، ولا تتبرّج تبرج الجاهلية الأولى، ولا تخلع حجابها، وتكون محافظة في سيرتها على الآداب الإسلامية حتى تكون قدوة حسنة لأبنائها على التزام العفة والنجابة، والابتعاد عما يثير الشهوات ويفسد الأخلاق.
إن العلاقة الزوجية التي تسود فيها الأمانة هي التي تنشئ العواطف الغالية في الرجل ليؤمن إيماناً صحيحاً بأن أبناءه وزوجته مقدّمون على نفسه ومصلحته.. أما إذا زالت الأمانة فلا يشعر الرجل بغيرة على زوجته، ولا يجد باعثاً نفسياً على تربية أولاده، ولا اهتماماً بمستقبلهم، ولا يحفل بأن يعيشوا في كنفه وفي ذرى عطفه، وهذا هو البلاء العظيم الذي تمنى به الإنسانية، فإن من آثاره فساد النشء حيث لا يعرفون لهم أباً عطوفاً يشفق عليهم، ويقدمهم على نفسه، وبذلك تموت العواطف التي بموتها تموت الإنسانية.
هذه بعض الأمور التي ينبغي للأم مراعاتها، وتطبيقها على واقع حياتها الزوجية حتى يتسنى لها إنشاء جيل صالح.
وأولى الإسلام رعاية الأبناء لآبائهم اهتماماً خاصاً، وأوجب عليهم طاعتهم المطلقة، وجعل عقوقهم من الكبائر التي توعّد عليها بالنار.
لقد أعلن كتاب الله العظيم في غير آية من آياته لزوم الإحسان للأبوين ووجوب طاعتهما، وقرن ذلك بعبادته، وطاعاته قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَ تَعْبُدُوا إِلاَ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً). (سورة الإسراء: 23-24)
على هذا النهج القويم الذي يمثل أصالة الإسلام وخلوده في تربيته وتعاليمه يجب على المسلم أن يعامل أبويه، ويقابلهما بكل ما يملك من طاقات الخدمة والإحسان وإن يسخّر نفسه للعمل بما يرضي عواطفهما، ويشيع في نفوسهما روح الرضا والقبول وليس له أن يفوه بكلمة سأم أو ضجر منهما فيما إذا بلغا سن الشيخوخة، وعجزا عن القيام بشؤونهما، فإنه تتأكد خدمتها، ورعايتهما، وعليه أن يخفض جناح الذل، ويدعو لهما ويقابلهما بكل ألوان التكريم والإكبار فإن ذلك من موجبات الغفران، وقد تواترت الأخبار عن النبي (صلّى الله عليه وآله) وأئمة الهدى (عليهم السلام) بلزوم البر والإحسان إليهما، وفيما يلي بعض تلك النصوص.
1ـ روى الإمام أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): (أن رجلاً أتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال له: يا رسول الله إني راغب في الجهاد نشيط؟ فقال له النبي (صلّى الله عليه وآله): فجاهد في سبيل الله، فإنك إن تقتل تكن حياً عند الله ترزق، وإن تمت فقد وقع أجرك على الله، وإن رجعت رجعت من الذنوب كما وُلدت. قال يا رسول الله: إن لي والدين كبيرين يزعمان أنهما يأنسان بي ويكرهان خروجي؟ فقال (صلّى الله عليه وآله): فقرّ مع والديك، فوالذي نفسي بيده لأنسهما بك يوماً وليلة خير من جهاد سنة..).
إن بر الولد بأبيه أكثر ثواباً، وأعظم أجراً من الجهاد الذي هو باب من أبواب الجنة.
2ـ روى زكريا بن إبراهيم قال: كنت نصرانياً، فأسلمت وحججت فدخلت على أبي عبد الله، فقلت له:
- إني كنت نصرانياً، وإني أسلمت.
- (أي شيء رأيت في الإسلام؟).
- قول الله عز وجل: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ).
فرفع الإمام (عليه السلام) يديه بالدعاء له بالهداية والتفويق، وسأله زكريا، فقال له:
إن أبي وأمي على النصرانية، وأمي مكفوفة البصر، فأكون معهم وآكل من آنيتهم.
فقال (عليه السلام): يأكلون لحم الخنزير.
- لا، ولا يمسونه.
- (لا بأس، فانظر أمك فبرها، فإذا ماتت فلا تكلها إلى غيرك، كن أنت الذي تقوم بشأنها..).
ولما قفل راجعاً إلى بلده أخذ في برّ والدته، والإحسان إليها، وتعاهد خدمتها، فاستغربت من كثرة عنايته بها فقالت له: يا بني، ما كنت تصنع هذا بي، وأنت على ديني، فما الذي أرى منك منذ هاجرت فدخلت في الحنيفية؟!
فقال: رجل من ولد نبينا أمرني بهذا.
- هذا الرجل نبي (صلّى الله عليه وآله).
- لا، ولكنه ابن نبي.
- إن هذه وصايا الأنبياء، إن دينك خير دين.
وطلبت منه أن يعرض عليها الإسلام، فأسلمت.
لقد بنى الإسلام على مكافأة المحسنين والبر بالأبوين بكل ما تحتمله هذه الكلمة من معنى.
3ـ ويؤكد الإسلام بصورة خاصة على خدمة الأم والبر بها أكثر من الأب لأن حقوقها على الولد أكثر من حقوق الأب، فقد روى الإمام أبو عبد الله الصادق (عليه السلام) أن رجلاً جاء إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال له:
- من أبر؟
- (أمك).
- ثم من؟
- (أمك).
- ثم من؟
- (أمك).
- ثم من؟
- (أباك). (أصول الكافي: ج2، ص161-162)
إن الولد مسؤول أمام الله عن رعاية أمه والبر بها، وتوفير ما تحتج إليه جزاءً لأتعابها القاسية، وعنائها الشاق الذي بذلته في تربيته... وفي الحديث أن رجلاً كان يحمل أمه فيطوف بها، فسأل النبي (صلّى الله عليه وآله): هل أدّيت حقها؟ فقال (صلّى الله عليه وآله): (لا، ولا بزفرة واحدة).
إن البر بالوالدين، ولزوم طاعتهما، والقيام بجميع ألوان الخدمة لهما كل ذلك من العناصر الأساسية في التربية الإسلامية الهادفة إلى تماسك المجتمع على أساس من المودة الصادقة والحب المتبادل.
شكرا
>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================
__________________________________________________ __________
__________________________________________________ __________
__________________________________________________ __________
__________________________________________________ __________
مقدم من طرف منتديات أميرات
مفهوم الأسرة ووظائفها
إن الأسرة إحدى العوامل الأساسية في بناء الكيان التربوي وإيجاد عملية التطبيع الاجتماعي، وتشكيل شخصية الطفل، وإكسابه العادات التي تبقى ملازمة له طول حياته، فهي البذرة الأولى في تكوين النمو الفردي وبناء الشخصية، فإن الطفل في أغلب أحواله مقلّد لأبويه في عاداتهم وسلوكهم فهي أوضح قصداً، وأدق تنظيماً، وأكثر إحكاماً من سائر العوامل التربوية ونعرض فيما يلي لأهميتها، وبعض وظائفها، وواجباتها وعمّا أثر عن الإسلام فيها، كما نعرض لما منيت به الأسرة في هذه العصور من الانحراف وعدم القيام بمسؤولياتها. (الأسرة: في علم الاجتماع رابطة اجتماعية تتكون من زوج زوجة وأطفالهما، وتشمل الجدود والأحفاد، وبعض الأقارب على أن يكونوا مشتركين في معيشة واحدة، جاء ذلك في علم الاجتماع: ص92. ويرى البعض أن الزواج الذي لا تصحبه ذرية لا يكون أسرة، جاء ذلك في الأسرة والمجتمع: ص15-16)
أهمية الأسرة
وليس من شك أن الأسرة لها الأثر الذاتي والتكوين النفسي في تقويم السلوك الفردي، وبعث الحياة، والطمأنينة في نفس الطفل، فمنها يتعلم اللغة ويكتسب بعض القيم، والاتجاهات، وقد ساهمت الأسرة بطريق مباشر في بناء الحضارة الإنسانية، وإقامة العلاقات التعاونية بين الناس، ولها يرجع الفضل في تعلّم الإنسان لأصول الاجتماع، وقواعد الآداب والأخلاق، كما أنها السبب في حفظ كثير من الحِرف والصناعات التي توارثها الأبناء عن آبائهم..
ومن الغريب أن الجمهورية التي نادى بها أفلاطون، والتي تمجّد الدولة، وتضعها في المنزلة الأولى قد تنكرت للأسرة، وأدت إلى الاعتقاد بأنها عقبة في سبيل الإخلاص والولاء للدولة، فليس المنزل - مع ما له من القيمة العظمى لدينا - سوى لعنة وشر في نظر أفلاطون، وإذا كان من بين أمثالنا أن بيت الرجل هو حصنه الأمين، فإن أفلاطون ينادي: اهدموا هذه الجدران القائمة فإنها لا تحتضن إلا إحساساً محدوداً بالحياة المنزلية. (آراء أفلاطون وأرسطو في فلسفة الأخلاق والسلوك: ص143)
واجبات الأسرة
إن الأسرة مسؤولة عن نشأة أطفالها نشأة سليمة متسمة بالاتزان، والبعد عن الانحراف، وعليها واجبات، ملزمة برعايتها، وهي:
- أولاً: أن تشيع في البيت الاستقرار، والودّ والطمأنينة، وإن تُبعد عنه جميع ألوان العنف والكراهية، والبغض، فإن أغلب الأطفال المنحرفين والذين تعودوا على الإجرام في كبرهم، كان ناشئاً ذلك على الأكثر من عدم الاستقرار العائلي الذي منيت به الأسرة، يقول بعض المربين: ونحن لو عدنا إلى مجتمعنا الذي نعيش فيه فزرنا السجون، ودور البغاء ومستشفيات الأمراض العقلية، ثم دخلنا المدارس، وأحصينا الراسبين من الطلاب والمشاكسين منهم والمتطرفين في السياسة، والذاهبين بها إلى أبعد الحدود، ثم درسنا من نعرفهم من هؤلاء لوجدنا أن معظمهم حرموا من الاستقرار العائلي، ولم يجد معظمهم بيتاً هادئاً فيه أب يحدب عليهم، وأم تدرك معنى الشفقة، فلا تفرط في الدلال، ولا تفرط في القسوة، وفساد البيت أوجد هذه الحالة من الفوضى الاجتماعية، وأوجد هذا الجيل الجديد الحائر الذي لا يعرف هدفاً، ولا يعرف له مستقراً. (البيت والمدرسة: ص27-28)
إن إشاعة الود والعطف بين الأبناء له أثره البالغ في تكوينهم تكويناً سليماً، فإذا لم يرع الآباء ذلك فإن أطفالهم يصابون بعقد نفسية تسبب لهم كثيراً من المشاكل في حياتهم ولا تثمر وسائل النصح والإرشاد التي يسدونها لأبنائهم ما لم تكن هناك مودة صادقة بين أفراد الأسرة، وقد ثبت في علم النفس أن أشد العقد خطورة، وأكثرها تمهيداً للاضطرابات الشخصية هي التي تكون في مرحلة الطفولة الباكرة خاصة من صلة الطفل بأبويه، كما أن تفاهم الأسرة وشيوع المودة فيما بينهما مما يساعد على نموه الفكري، وازدهار شخصيته. (الأمراض النفسية والعقلية: ص ب)
يقول الدكتور (جلاس ثوم): ومهما تبلغ مسؤولية الوالدين في إرشاد الطفل، وتدريبه، وتوجيهه من أهمية فإنها لا ينبغي أن تطغى على موقف أساسي آخر ينبغي أن يتخذوه ذلك هو أن يخلقوا من البيت جواً من المحبة تسوده الرعاية، ويشيع فيه العطف والعدالة، فإذا عجز الآباء عن خلق هذا الجو الذي يضيء فيه سنن التكوين التي تقيم حياته، حرموه بذلك من عنصر لا يمكن تعويضه على أي وجه من الوجوه فيما بعد، فمع أن للدين والمجتمع والمدرسة أثرها في تدريب الطفل وتهذيبه إلا أن أحداً منها لا يعنى بتلك العواطف الرقيقة الرائعة التي لا يمكن أن تقوم إلا في الدار، ولا ينتشر عبيرها إلا بين أحضان الأسرة. (مشكلات الأطفال اليومية: ص48)
إن السعادة العائلية تبعث الطمأنينة في نفس الطفل، وتساعده على تحمل المشاق، وصعوبات الحياة، يقول سلامة موسى: (إن السعادة العائلية للأطفال تبعث الطمأنينة، في نفوسهم بعد ذلك حتى إذا مات أبوهم بقيت هذه الطمأنينة، وقد وجد عند إجلاء الأطفال من لندن مدة الغارات في الحروب الأخيرة أن الذين سعدوا منهم بوسط عائلي حسن تحملوا الغربة أكثر مما تحمّلها الذين لم يسعدوا بمثل هذا الوسط، ذلك لأن الوسط العائلي الحسن بعث الطمأنينة في الأطفال، فواجهوا الغربة مطمئنين، ولكن الوسط العائلي القلق الذي نشأوا فيه يزداد بالغربة. وإذا أعطينا الطفل ـ مدة طفولته في العائلة ـ الحب والطمأنينة أعطى هو مثل ذلك. (عقلي وعقلك)
- ثانياً: أن تشرف الأسرة على تربية أطفالها، وقد نصّ علماء الاجتماع على ضرورة ذلك وأكدوا أن الأسرة مسؤولة عن عمليات التنشئة الاجتماعية التي يتعلم الطفل من خلالها خبرات الثقافة، وقواعدها في صورة تؤهله فيما بعد لمزيد من الاكتساب، وتمكّنه من المشاركة التفاعلية مع غيره من أعضاء المجتمع. (علم الاجتماع: ص487)
كما أكد علماء التربية على أهمية تعاهد الآباء لأبنائهم بالعطف والحنان، والحدب عليهم، والرأفة بهم حفظاً وصيانةً لهم من الكآبة والقلق، وقد ذكرت مؤسسة اليونسكو في هيئة الأمم المتحدة تقريراً مهماً عن المؤثرات التي تحدث للطفل من حرمانه من عطف أبيه وقد جاء فيه:
(إن حرمان الطفل من أبيه ـ وقتياً كان أم دائمياً ـ يثير فيه كآبة وقلقاً مقرونين بشعور الإثم والضغينة، ومزاجاً عاتياً متمرداً، وخوراً في النفس، وفقداناً لحس العطف العائلي، فالأطفال المنكوبون بحرمانهم من آبائهم ينزعون إلى البحث في عالم الخيال عن شيء يستعيضون به عما فقدوه في عالم الحقيقة، وكثيراً ما يكوّنون في مخيّلتهم صورة الأب مغواراً أو الأم من الحور... وقد لوحظ في (معاهد الأطفال) أنه إذا كانت صحة الطفل البدنية، ونموه العضلي، وضبط دوافعه الإرادية تتفتح، وتزدهر بصورة متناسقة في تلك المعاهد، فإن انفصاله عن والديه قد يؤدي من جهة أخرى إلى ظهور بعض المعايب كصعوبة النطق، وتمكن العادات السيئة منه وصعوبة نمو حسه العاطفي). (أثر الأسرة والمجتمع في الأحداث الذين هم دون الثالثة عشر: ص37)
إن أفضل طريق لحفظ الأبناء مصاحبتهم، ورقابتهم، ويرى المربون المحدثون (أن أفضل ميراث يتركه الأب لأطفاله هو بضع دقائق من وقته كل يوم). (مجلة المختار عدد أبريل لسنة 1956 تحت عنوان أقوال مأثورة)
ويرى بعض علماء الاجتماع والباحثون في إجرام الأحداث (أن أفضل السبل للقضاء على انحراف الأحداث هو أن نلقط الآباء من الشوارع ليلاً). (مجلة الهلال عدد مايو لسنة 1957: ص18)
وإذا قام الأب بواجبه من مراقبة أبنائه، ومصاحبتهم فإنه من دون شك يجد ابنه صورة جديدة منه فيها كل خصائصه، ومميزاته، وانطباعاته وعلى الآباء أن يتركوا مجالس اللهو ويعكفوا على مراقبة أبنائهم حتى لا يدب فيهم التسيب، والانحلال يقول شوقي:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من هـــــمّ الحــــــياة وخــــلّفاه ذليلا
إن اليتــــيم هـــو الذي تلقى له أماً تخـــــلت أو أبــــــــاً مشغولا
- ثالثاً: يرى بعض المربين أن من واجبات الآباء والأمهات تجاه أطفالهم هو تطبيق ما يلي:
1ـ ينبغي أن يتفق الأب والأم على معايير السلوك، وإن يؤيد كل منهما الآخر فيما يتخذاه من قرارات نحو أولادهما.
2ـ ينبغي أن يكون وجود الطفل مع الأب بعد عودته من عمله جزءاً من نظام حياته اليومي، فحتى صغار الأطفال يكونون في حاجة إلى الشعور بالانتماء، وهم يكسبون هذا الشعور من مساهمتهم في حياة الأسرة.
3ـ ينبغي أن يعلم الأطفال أن الأب يحتاج إلى بعض الوقت يخلو منه إلى نفسه كي يقرأ أو يستريح، أو يمارس هوايته.
4ـ تحتاج البنت إلى أب يجعلها تشعر بأنوثتها، وأنها من الخير أن تكون امرأة تتمتع بالفضيلة والعفاف والاستقامة.
5ـ يحتاج الولد إلى أب ذي رجولة وقوة على أن يكون في الوقت نفسه عطوفاً، حسن الإدراك، فالأب المسرف في الصلابة والتزمت قد يدفع ابنه إلى الارتماء في أحضان أمه ناشداً الحماية وإلى تقليد أساليبها النسائية. (كيف تكون أباً ناجحاً، ص39، و67، 85)
هذه بعض الأمور التي يجب رعايتها، والاهتمام بها فإن وفق الآباء إلى القيام بها تحققت التربية لصالحة التي تنتج أطفالاً يكونون في مستقبلهم ذخيرة للأمة وعزاءً لآبائهم.
إن للطفل خصائصه الذاتية من الصفاء والبراءة، وسلامة العاطفة وبساطة الفكر فعلى الأبوين أن يفتحا عينيه على الفضائل وإن يغرسا في نفسه النزعات الخيّرة ليكن لهما قرة عين في حياتهما.
وظائف الأسرة
وللأسرة وظائف حيوية مسؤولة عن رعايتها، والقيام بها، وهذه بعضها:
1ـ إنها تنتج الأطفال، وتمدّهم بالبيئة الصالحة لتحقق حاجاتهم البيولوجية والاجتماعية، وليست وظيفة الأسرة مقتصرة على إنتاج الأطفال فإن الاقتصار عليها يمحو الفوارق الطبيعية بين الإنسان والحيوان.
2ـ إنها تعدّهم للمشاركة في حياة المجتمع، والتعرف على قيمة وعاداته.
3ـ إنها تمدّهم بالوسائل التي تهيئ لهم تكوين ذواتهم داخل المجتمع.
4ـ مسؤوليتها عن توفير الاستقرار والأمن والحماية والحنو على الأطفال مدة طفولتهم فإنها أقدر الهيئات في المجتمع على القيام بذلك لأنها تتلقى الطفل في حال صغره، ولا تستطيع أية مؤسسة عامة أن تسد مسد الأسرة في هذه الشؤون. (المجتمع الإنساني: ص59-60)
5ـ على الأسرة يقع قسط كبير من واجب التربية الخلقية والوجدانية والدينية في جميع مراحل الطفولة.. ففي الأمم التي تحارب مدارسها الرسمية الدين بطريق مباشر أو غير مباشر كالشيوعية، وفي الأمم التي تسير معاهدها الدراسية على نظام الحياد في شؤون الدين والأخلاق كفرنسا وغيرها يقع عبء التعليم الديني على الأسرة... فبفضل الحياة في الأسرة تتكون لدى الفرد الروح الدينية وسائر العواطف الأسرية التي تؤهله للحياة في المجتمع والبيت. (الأسرة والمجتمع: ص20-21)
إن فترة الطفولة تحتاج إلى مزيد من العناية والإمداد بجميع الوسائل التي تؤدي إلى نموه الجسمي والنفسي، وإن من أوهى الآراء القول بأن الوظيفة الوحيدة للأسرة إمدادها للأبناء بالمال اللازم لهم، فإن هذا القول قد تجاهل العوامل النفسية المختلفة التي لابدّ منها لتكوين الفرد الإنساني كالحنان والعطف، والأمن والطمأنينة فإنها لازمة لنمو الطفل النفسي، ويجب أن تتوفر له قبل كل شيء. (الأسرة التربوية الاجتماعية: ص69-71).
لقد أكد علماء النفس والتربية أن للأسرة أكبر الأثر في تشكيل شخصية الطفل، وتتضح أهميتها إذا ما تذكرنا المبدأ البيولوجي الذي ينص على ازدياد القابلية للتشكيل أو ازدياد المطاوعة كلما كان الكائن صغيراً. بل يمكن تعميم هذا المبدأ على القدرات السيكولوجية في المستويات المتطورة المختلفة.
إنا ما يواجهه الطفل من مؤثرات في سنّه المبكر يستند إلى الأسرة فإنها العامل الرئيسي لحياته، والمصدر الأول لخبراته، كما أنها المظهر الأصيل لاستقراره، وعلى هذا فاستقرار شخصية الطفل وارتقائه يعتمد كل الاعتماد على ما يسود للأسرة من علاقات مختلفة كماً ونوعاً... إن من اكتشافات علم التحليل أن قيم الأولاد الدينية والخلقية إنما تنمو في محيط العائلة. (كيف تساعد أبناءك في المدرسة: ص193)
هذه بعض الوظائف المهمة التي تقوم بها الأسرة في ميادينها التربوية
الروابط العائلية
• تقول الإحصاءات: أن معدل الرجال والنساء الذين يتزوجون في فرنسا لا يتجاوز السبعة أو الثمانية في الألف. (في قضايا الزواج والأسرة، ص137).
وتقول أيضاً: أن الرابطة الزوجية أصبحت أوهن من بيت العنكبوت، حتى أن محكمة بمدينة (سين) فسخت 294 نكاحاً في يوم واحد. (المصدر، ص138).
لماذا هذا الانخفاض الرهيب في نسبة الزواج؟ ولماذا هذه النسبة الضخمة في قضايا الطلاق؟
الواقع، أن الأنظمة المادية التي هاجرت قضايا الدين الأساسية، لم ولن تتمكن أن تضع العائلة في سياج متين يمنعها من الانهيار، فالدساتير الأسرية المادية لا تستطيع أن تعمل على توطيد العلاقات الزوجية، لأنها لا تستطيع أن تجيب على كل متطلبات الأسرة سواءً منها ما يرتبط بعلاقات أفراد العائلة أو ما يرتبط بالزواج وحده والزوجة وحدها، ومن الطبيعي في مثل ذلك أن يهرب الرجال والنساء من بناء حياة زوجية ما دامت تتسربل بالمأساة، والتعاسة، والفوضى بسبب تمزق الزوجين على أثر الانحرافات العريضة التي يفعم بها النظام العائلي الغربي، أما الإسلام فهو لا يترك الأسرة تسير حسب الأهواء، وتنجرف مع تيار العواطف، وإنما يرسم لها خطاً واضحاً في كل مجال من مجالاتها.. خطاً يحافظ على توازن البناء الأسري.. خطاً يوثق علاقات الحب والعطف والحنان فيما بين أفراد العائلة.
***
والعائلة المسلمة التي تريد أن تطبق قوانين الإسلام في الأسرة يجب أن تسودها الأمور التالية بشكل نبيل:- الأول: تبادل الحب والعطف بين الزوجين من ناحية، وبينهما وبين الأولاد من ناحية أخرى، فإن الأسرة إذا غادرها الحب، وهجرها العطف لابد أن تتفاعل فيها عوامل الانهيار، والهدم، فتهدد مصير الأسرة، ولابد أن كل دقيقة تمر عبر حياة هذه الأسرة تنذر بأن تكون هي تلك الدقيقة التي تتحول فيها إلى ركام من أنقاض، ورماد، لأنها تكون دائماً على مسرح خطر معرّض للهيب النار ولفحات البركان.
إن الحب المتبادل يجب أن يرقد في قلب كل واحد من أفراد الأسرة، حتى يكون قنديلاً يضيء له الدروب الحياتية، وحتى يكون نبراساً لمسيرته نحو روافد السعادة، وينابيع الازدهار، ومنابع الخير والنعيم، ومن ثم يكون مشعل الحياة الفضلى في درب الحياة الكبير.
إن الحب المتبادل هو العامل الفعال الذي يدفع كل واحد من أفراد الأسرة إلى أن يتحمل مسؤولياته برحابة صدر، وبجذل وفرح طافحين، فكل واحد يشعر بأنه سعيد لأنه يتمتع بعطف الآخرين، وحبهم العميق، ولهذا فإن الإسلام يركز كثيراً على هذه النقطة.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام) مؤكداً ذلك: (إن الله عز وجل ليرحم الرجل لشدة حبه لولده) (الطفل بين الوراثة والتربية، ج2، ص126).
كما يؤكد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ذلك بقوله: (أحبوا الصبيان، وارحموهم) (المصدر السابق).
لأن الحب والرحمة عاملان أساسيان في توطيد العلاقات العائلية.
- الثاني: يجب أن يسود التعاون المشترك في المجالات المختلفة بين أفراد العائلة. لكي لا تشل الأسرة عن حيويتها، ونشاطها بصورة مستمرة، فإن التعاون يكنس الإرهاق، ويذيب التذمر من تحمل المسؤوليات. وكذلك. يوطد علاقات أفراد الأسرة بعضهم مع بعض. ولا يدع مجالاً لأن يتسرب التفكك إلى ربوع العائلة المسلمة التي تلتزم بمبدأ التعاون، والتكافل الاجتماعيين.
والتعاون بين أفراد العائلة لابد وأن يقود سفينة الحياة نحو مرافئ السعادة، ونحو موانئ الرفاه، والهناء، والدفء... التعاون لابد أن يحقق كل الآمال التي يعيشها فراد العائلة فرداً فرداً. وتترجمها على حلبة الواقع العملي.. التعاون لابد أن يجسد كل الأماني التي تدور في سراب الأفكار، فتمثلها مجسمة نابضة بالحياة.
- الثالث: تبادل الاحترام، والتوقير، والإحسان، سواءً من جانب الصغير للكبير، أو من جانب الكبير للصغير، فإن الاحترام، والإحسان يزرعان بذور الشعور بالشخصية، ويغرسان أوتاداً توطد العلاقات الأسرية بين الأفراد فعلى الوالدين أن يرحما الأولاد. لكي يحترمهما الأولاد من جانبهم. وكذلك على الأبناء أن يحترموا الآباء ويحترم أحدهم الآخر.
ويؤكد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) على هذه الناحية بقوله: (وقروا كباركم، وارحموا صغاركم)
كما يؤكدها الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بقوله: (وارحم من أهلك الصغير، ووقر الكبير).
والإسلام يبني علاقات الأسرة على أساس من (الإحسان المتبادل) بين الزوج والزوجة، والزوج والأولاد، والزوجة والزوج، والزوجة والأولاد. ويحدد القرآن الحكيم طرقاً من هذه العلاقة النبيلة حيث يخط ضمن آية من آياته:
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ألا تَعْبُدوا إِلاّ اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) (سورة البقرة: 83).
وهو يرفض ـ حينما يرسم العلاقات الأسرية ـ أن ينشأ التنافر، والتضجر بين أفراد العائلة، أو ينبت التذمر، والابتعاد فيحرض دائماً أن يقيم الأولاد علاقاتهم على أساس العطف والحنان والاحترام والإحسان. فيخط القرآن:
(وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) (سورة بني إسرائيل: 23).
- الرابعة: إطاعة الأب من قبل جميع أفراد العائلة لأنه يمثل النقطة المركزية في الأسرة، ولأنه أعرف ـ بحكم تجاربه وثقافته ـ بالمصالح الفردية والاجتماعية لكل واحد منهم، وطبيعي أن الإسلام يقرر الطاعة للأب في حدود طاعة الخالق فلو تمرد الوالد على مقررات النظام العام وشذ عن حدود العقيدة وأطر الاعتدال، وراحت أوامره تنغمس في رافد مصلحي شخصي، فلا يجوز للأولاد أو الزوجة إطاعته في الأمور العقائدية والدينية. لأن أوامره لا تحمل حينذاك أية مصونية تقيها من الظلم والعصيان والتمرد. يصرح بذلك القرآن الحكيم قائلاً:
(وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً) (سورة لقمان: 15).
فهنا تنقطع العلاقات العقائدية والعملية بينهما، أما علاقات الحب والعطف والود والإحسان، فيجب أن تطبع سرة الأولاد مع الأب حتى المنحرف فكرياً، لئلا تنهار الأسرة.
- الخامسة: قيام الولد بواجب النفقة، وتجهيز الملبس، والمسكن للزوجة والأولاد في مقابل قيمومته عليهم. فإن كل هذه الأسس توطد علاقات أفراد العائلة وتربطهم الواحد بالآخر أكثر.. فأكثر.. وتجعل منهم جسداً واحداً إذا بكى عضو منه، بكت بقية الأعضاء، وإذا أصيب عضو منه بمأساة، تعاونت معه بقية الأعضاء لرفعها.
- السادسة: عندما يقرر الإسلام حقوق الأب باعتباره سيد الأسرة، لا ينسى أن يضع بين يديه قائمة عن الحقوق المفروضة عليه تجاه أفراد العائلة: الأولاد والزوجة على حد سواء، لكي تتوطد العلاقات الزوجية والروابط العائلية وتبنى على أساس العدالة والمساواة.
فالأب إنما هو كموظف وكلت إليه إدارة (مؤسسة العائلة) ضمن حقوق وواجبات معينة. وعليه مسؤولية تشغيل وإصلاح هذه المؤسسة البشرية في إطار تلك الحقوق والواجبات، والإمام علي بن الحسين (عليه السلام) يرسم للأب واجباته وحقوق الآخرين حينما يقول:
(وأما حق ولدك: فتعلم أنه منك، ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره، وإنك مسؤول عما وليته، من حسن الأدب والدلالة على ربه، والمعونة له على طاعته فيك وفي نفسه، فمثاب على ذلك ومعاقب، فاعمل في أمره عمل المتزين بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا، المعذّر إلى ربه فيما بينك وبينه بحسن القيام عليه، والأخذ له منه، ولا قوّة إلا بالله) (بحار الأنوار: ج74، ص15).
وهكذا.. يقيم الإسلام علاقات الأسرة على أساس وطيد، ويرسم لها قوانين ومناهج تلتقي على خط المساواة والعدالة. لكي تغمر السعادة حياتها. ولكي تسير نحو ينابيع الهناء، والسلامة
الأسرة في العصور الحديثة
مشكلة الأسرة ـ في هذه العصور الحديثة ـ مشكلة خطيرة جداً، فقد فقدت نتيجة التغيرات الاجتماعية كثيراً من وظائفها التي كانت تقوم بها من ذي قبل، فأدى ذلك إلى تفكك عرى الأسرة، وانهيار الروابط التي كانت تربطها فيما قبل، يقول بعض المربين:
(والواقع أن من مخاطر المجتمع الحديثة الرئيسية أن الدور الطبيعي الذي كانت تقوم به الأسرة يتضاءل نتيجة لاستيلاء مؤسسات أخرى على كثير من مسؤولياتها ونخشى نتيجة التضاؤل أن تفقد الأسرة الأثر الفعّال، الذي هو من أهم قوى الاستقرار في المجتمع..). (التعليم: ص87)
وإن من أوهى الآراء القول بإهمال شؤون الأسرة، وترك الحديث والبحث عنها، لأنها لا تؤثر في تطورنا الاجتماعي، بل إنها مصدر من مصادر الاستغلال يجب تحطيمها كما أعلنته الماركسية في بداية تطبيقها زاعمة أن الرجل يستغل زوجته وأولاده فيتخذهم أدوات إنتاج. (بيان الحزب الشيوعي: ص69، طبع دار التقدم في موسكو)
وأصر إنجلز على ذلك فقال: (ولا تعود العائلة الفردية بتحويل وسائل الإنتاج إلى ملكية عامة، الوحدة الاقتصادية للمجتمع، وتصبح إدارة المنزل الخاصة صناعة، وتصبح العناية بالأطفال، وتربيتهم قضية عامة، إذ يأخذ المجتمع على عاتقه تربية جميع الأطفال على حد سواء أكانوا ثمرة زواج أم لم يكونوا... وبهذا يختفي الخجل الذي يساور قلب الفتاة من جرّاء النتائج التي هي في زماننا أهم عامل اقتصادي خلقي يعوق الفتاة من استسلامها بحرية إلى الشخص الذي تحبه...). (أصل العائلة، ص81، ويراجع في معرفة المزيد من ذلك النظام الشيوعي، ص50)
وقد تراجعت الشيوعية عن كثير من مقرراتها لأنها اصطدمت بالواقع الذي يعيشه الناس في جميع مراحل تأريخهم من أن الأسرة نظام مستقر ثابت لا غنى للبشرية عنه ومن ثم اتجه المشروع الروسي إلى إعلاء شأن الأسرة والعمل على حماية الدولة لمصلحة الأم والطفل. ومنح المرأة إجازة قبل الولادة وبعدها بأجر كامل. (الدستور السوفيتي، المادة 122)
انعزال المرأة عن التربية
وكانت المرأة فيما قبل مستقرة في بيتها تعنى بتربية أولادها، والقيام بشؤون زوجها، وكانت تقوم مقام المعلم بين أبنائها مشتركة مع الرجل في ذلك.. أما في هذه الصورة فقد خرجت الزوجة لتقوم بأعمال تشابه أعمال الرجل، وأصبحت شؤون المنزل والقيام بمهامه عملاً ثانوياً بالنسبة لها. وأصبحت المرأة في كثير من الدول ترى أن إنجاب الأطفال يتعارض مع قيامها بتولي الوظائف العامة، الأمر الذي نجم منه تحديد النسل، وعدم التفكير في إنجاب الأطفال.
ومما لا شبهة فيه أن المرأة مسؤولة عن تهيئة الجو الاجتماعي والنفسي لنشأة الأطفال نشأة سليمة متكاملة، وقد نجم من تخيّلها عن هذه الوظيفة كثير من المضاعفات السيئة، وكان من أهمها انهيار الأسرة، فقد أصبح التقاء المرأة بزوجها وأطفالها التقاءً سريعاً، وأصبحت الأسرة في نظر الكثيرين أكثر شبهاً (باللوكاندة) من دون أن يوجد ذلك الرباط الاجتماعي والنفسي الذي يربط بين أفراد الأسرة، والذي يدعوهم دائماً إلى وضع مصلحة الأسرة فوق كل اعتبار. (الأسس الاجتماعية: ص72)
إن خروج المرأة من البيت قد أوجب حرمان الطفل من التمتع بحنان أمه، وذلك لمزاولتها العمل، وتركه لها أكثر الوقت، ومن الطبيعي أن تغذيته الاصطناعية وتعهد المربية لشؤونه لا يسد مسدّ حنان الأم وعطفها، فقد أثبتت التجارب العلمية أن الطفل لا ينمو، ولا يترعرع على حليب أمه، فحسب بل على عطفها وحنانها، وهذا الغذاء العاطفي لا يقل أهمية عن الغذاء الجسدي في تنمية شخصيته ومن هنا جاءت أفضلية التغذية الطبيعية من ثدي الأم على التغذية الاصطناعية ففي الأولى يتمتع الطفل بأمرين هما الغذاء والحنان وأما التغذية الاصطناعية، فإنها تخلو غالباً من شعور الطفل بحنان أمه. ومن هنا يحسن في الأطفال الذي يحرمون من التغذية الطبيعية أن تضمهم أمهاتهم إلى صدورهن حسب ما ينصح به أطباء الأطفال. (أسس الصحة النفسية: ص75)
وعلى أي حال فإن الطفل لا ينشأ نشأة سليمة إلا إذا أخذ حظه من الحب والحنان من أمه، وهو ـ في الغالب ـ قد حرم من هذه الجهة حين انعزال المرأة عن التربية.
وقد نعى على المرأة خروجها من بيتها جمع كبير من علماء التربية والاقتصاد والنفس، ونعرض لكلماتهم من دون أن نعلّق عليها.
يقول الفيلسوف الكبير برتراند رسل: (إن الأسرة انحلت باستخدام المرأة في الأعمال العامة، وأظهر الاختبار أن المرأة تتمرد على تقاليد الأخلاق المألوفة). (الإسلام والحضارة العربية، ج2، ص92)
ويقول العالم الاقتصادي جون سيمون: (النساء قد صرن الآن نسّاجات وطبّاعات، وقد استخدمتهن الحكومة في معاملها، وبهذا فقد اكتسبن بضعة دريهمات، ولكنهن في مقابل ذلك قد قوّضن دعائم أسرهن تقويضاً. نعم إن الرجل صار يستفيد من كسب امرأته، ولكن إزاء ذلك قلّ كسبه لمزاحمتها له في عمله.. (مجلة المجلات: ص17)
ويقول العالم الاجتماعي أوجست كونت، جواباً عن سؤال قدمته (هيركور) تسأله عن رأيه في المرأة فأجابها: (إن حالة المرأة في الهيئة الاجتماعية إذا جرت على النسق الذي تريدينه، كما هو حالة الرجل، فيكون أمرها قد انتهى فإنها تصير مستعبدة مملوكة). (دائرة معارف وجدي: ج8، ص605-606)
وتقول الكاتبة (أني رورد): (لأن تشتغل بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم خير وأخف بلاءً من اشتغالهن في المعامل حيث تصبح البنت ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد، ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة، والعفاف والطهارة... الخادمة والرقيق يتنعمان بأرغد عيش ويعاملان كما يعامل أولاد البيت، ولا تمس الأعراض بسوء. نعم إنه العار على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال، بالناس لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها الطبيعية من القيام في البيت وترك أعمال الرجال سلامةً لشرفها..). (مجلة المنار: ج4، ص486)
يقول الأستاذ شفيق جبري: (إن المرأة في أمريكا أخذت تخرج من طبيعتها في مشاركتها للرجل في أعماله، إن المشاركة لا تلبث أن تتضعضع بها قواعد الحياة الاجتماعية، فكيف تستطيع المرأة أن تعمل في النهار، وأن تعنى بدارها وبأولادها في وقت واحد، فالمرأة الأمريكية قد اشتطت في هذا السبيل اشتطاطاً قد يؤدي في عاقبة الأمر إلى شيء من التنازع بينها وبين الرجل). (أرض السحر)
يقول سامويل سمايلس: (إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل مهما تنشأ عنه من الثروة للبلاد، فإن نتيجته هادمة لبناء الحياة المنزلية لأنه يهاجم هيكل المنزل، ويقوّض أركان الأسرة، ويمزق الروابط الاجتماعية..). (نظرية العلاقة الجنسية في القرآن الكريم: ص94-95)
تقول السيدة أمينة السعيد: (إن الجهل ما زال منتشراً في النساء، وإن التشريعات العائلية بصورتها الراهنة أحق بالعلاج من دخول البرلمان.. والبيت في رأيي جنة، ما بعدها جنة، واستقرار المرأة فيه يعادل آلاف الحقوق السياسية..). (علمتني: ص24)
هذه بعض الآراء التي أدلى بها جمع من المفكرين ـ وهي من دون شك ـ تحمل طابعاً كبيراً من السمة العلمية، فإن خروج المرأة من بيتها، ودخولها في المعامل، ومزاحمتها للرجل في عمله واقتصاده مما أدى إلى عجزها عن القيام بوظيفتها في تربية النشء فإنها لم تعد إلى المنزل إلا وقد أضناها العمل واستنزفت الأتعاب جميع قواها، فكيف تتمكن من تربية أطفالها تربية سليمة، ومن الطبيعي أن ذلك يشكل خطراً جسيماً على النشء يعرّضه إلى الإصابة بكثير من الأمراض النفسية، وعدم الاستقامة في سلوكه، حسب ما دلّل عليه علماء التربية والنفس.
تضاؤل نسبة الزواج
والشي الخطير الذي يهدد كيان الأسرة في جميع أنحاء العالم، هو تضاؤل نسبة الزواج وانخفاضه إلى حد كبير، فإن الحضارة المادية الحديثة قد جعلت المرأة متاعاً رخيصاً، وسلعة مبتذلة، حتى امتنع الكثيرون من الشباب عن الزواج لأن ما ينشدونه من المتعة الجنسية قد صار بمتناول أيديهم فإذن لماذا يقدمون على الزواج ويعانون أعباءه وأثقاله.
يقول الشيخ بهي الخولي:
(يمتنع الشباب عن الزواج، لأن الزواج قيد يحجزه عن الخوض فيما شاء من اللذة المتجددة، فقد أقبلت عوامل التطور الحديث على كثير من المجتمعات الغربية بحريات واسعة في الفكر والقول، والعقيدة والسلوك الخاص وأنشأت لهم أهدافاً في المال، والمنفعة واللذة الحسية تعارض ما كان لهم من أهداف روحية، ومقاييس لمعاني العرض والعفة، وصار لكل منهم حريته الواسعة في حياته الخاصة يفعل منها ما يريد دون رقابة من قانون أو تحرج من عرف، بل يفعل ما يريد بتحريض من العرف وعطف من المجتمع.
وكان من ذلك أن تفجّرت الشهوات، وسادت عبادة الجنس، وراج جنون اللذة يستبد بألباب كثير من أفراد تلك المجتمعات، فرأوا في الزواج قيداً يحد من حرياتهم في ابتغاء ما يريدون، فنبذوا حياة الأسرة، وركنوا إلى المخادعة، كلما فترت رغبة أحدهم في خليلته أو فترت رغبتها فيه انصرف كل منهما عن صاحبه حيث يجد اللذة في رغبة جديدة وشوق أشد.
ولا شك أن ذلك يفضي إلى قلة النسل أي تناقص عدد السكان، وضعف الأمة في مقوماتها المادية ومقوماتها المعنوية، وقد ظهرت آثاره السيئة منذ عشرات السنين في بعض البيئات الأوربية، وأخذت في الازدياد والاتساع حتى شملت كثيراً من الدول.
وها نحن نرى كثيراً من علماء الاجتماع يدقون نواقيس الخطر، وينذرون أممهم ـ إذ تُهمل حياة الأسرة ـ سوء المصير، بانهيار الأخلاق وانحلال روابط المجتمع، وانقراض النسل، ولقد وفق المارشال (ربيتان) غداة احتلال الألمان لفرنسا في الحرب العالمية الأخيرة، إذ ينادي قومه إلى الفضيلة، ويعزو الهزيمة إلى هجر حياة الأسرة فكان مما قاله:
(زنوا خطاياكم فإنها ثقيلة في الميزان، إنكم نبذتم الفضيلة، وكل المبادئ الروحية، ولم تريدوا أطفالاً، فهجرتم حياة الأسرة، وانطلقتم وراء الشهوات).
إن الدولة ـ باسم الإسلام ـ مكلفة أن تعني أعظم العناية بإنشاء الأسر، وحياطتها، وتوفير ضمانات الاستقرار لها، وتحسّن ما تلده الظروف الاقتصادية والثقافية والسياسية من آثار تمسها، نعم هي مسؤولة عن ذلك مسؤوليتها عن التموين والتعليم والدفاع، وما أشبه هذه الأغراض التي لا يمكن تركها للأفراد لأنها من صميم عمل الدولة..). (حقوق الإنسان، ص115-116)
الشذوذ الجنسي
وكان لتضاؤل نسبة الزواج وانخفاضه آثاره السيئة التي تهدد كيان الأسرة بالدمار والانحلال، واضطراب السلوك بين أفرادها، ومن أخطر آثاره إشاعة الشذوذ الجنسي، وانتشاره بين الناس، ومن الطبيعي أنه ليس شيء أخطر على الإنسانية، ولا أفتك بها من إشاعة الفوضى الجنسية فيها حيث تضيع الأنساب، وتنهار قواعد الأخلاق، وقد وضع الإسلام جريمة الزنا في صف الشرك بالله، وقرنها مع جريمة قتل النفس التي صانها الله وتوعّد بالخلود في النار لمن يقترفها قال تعالى: (وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً) (سورة الفرقان: 68-70).
لقد وضع الإسلام السدود والحواجز أمام جريمة الزنا فأمر بإخفاء الزينة صيانة للمرأة قال تعالى: (وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا) (سورة النور: 30).
وحرم إثارتها الانتباه والتدليل على جمالها وزينتها، قال تعالى: (وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) (سورة النور: 30).
كما منع من خلو الرجل مع المرأة الأجنبية، قال الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله): (لا يخلونّ أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم) (صحيح البخاري).
وحرّم ملامسة المرأة الأجنبية ففي الحديث (لأن يُطعن أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له). (البيهقي)
وجعل صلاة المرأة في بيتها كصلاتها في المسجد كل ذلك صيانة لها من الاختلاط الذي يدفعها إلى السقوط في حمأة الرذائل، وفقدانها لكرامتها وعزتها وشرفها.
إن الإسلام بجميع أجهزته وطاقاته يحارب الشذوذ الجنسي، ويحارب الفوضى الغريزية ويناهض جميع الوسائل التي تؤدي إلى سقوط المرأة في حمأة الرذائل، ويطالب بالنهوض بها إلى أرقى المستويات، يريد أن تكون ربة عائلة، ومربية جيل، وسيدة كريمة تحاط بهالة من العزة والكرامة... ولكن الحضارة المادية الحديثة قد أغرت المرأة، وحببت لها الإثم والفجور فأخرجتها من ذلك الميدان المشرق إلى حياة كريهة تحفها الضعة والهوان ووخز الضمير.
لقد سرت في العالم الغربي موجات رهيبة من الفوضى الجنسية، فلم تعد المرأة الغربية تعرف معنى للعفة والكرامة، والحياء والأمانة، ولم تفقه بحكم تربيتها الحديثة أي مغزى أصيل لهذه الحياة سوى إشباع رغباتها الجنسية وقد انتشر البغاء في الغرب انتشاراً فظيعاً تندى له جبين الإنسانية، انتشر في المنتديات والمعاهد والمحلات العامة، ولم يعد ذلك أمراً قبيحاً ينكره المجتمع أو ينفر منه، فقد تسالم على تشجيعه وإقراره.
يقول بولا بيورو:
(إن هذا العمل ـ أي احتراف البغاء ـ قد أصبح في زماننا نظاماً محكم التركيب يجري بما شئت من التنظيم في أيدي الموظفين، والعاملين المأجورين، ويعمل فيه أرباب القلم وناشرو الكتب، والخطباء، والمحاضرون والأطباء والقابلات والسياح التجاريون، ويستعمل له كل جديد من فنون النشر والعرض والإعلان).
ويقول جورج أسكان:
(أصبح تعاطي الفجور، وعدم التصون واتخاذ الأطوار السوقية معدوداً عند فتاة العصر من أساليب العيش المستجدة).
وقد عجت صحفهم اليومية والسياسية ومجلاتهم وكتبهم بإغراء المرأة ودفعها إلى التجارة بجسدها، وخلعها لثوب العفة والطهارة، وقد نجم من ذلك تسيب المرأة وتحللها، واندفاعها وراء الشهوات والمغريات كلما ملّت من رفيق، اتخذت خدناً آخر لها، وقد فسدت بذلك شؤون الأسرة، وعم الاضطراب والانحراف جميع أعضائها.
إن البغاء آفة كبرى على المجتمع، فإنه من أهم العوامل التي تنخر في كيانه وتقضي على أصالته وتماسكه، فالمجتمع الذي يصاب بهذا الداء الوبيل تنتشر فيه الأمراض الزهرية كالقرحة الرخوة، والسفلس، والسيلان المنوي، وهي مما توجب تدمير الصحة العامة، وتعريض الإنسان للإصابة بكثير من الأمراض المهلكة، كما تقضي على تماسك الشخصية، وإزالة جميع أرصدتها الأخلاقية والأدبية.
لقد انتشر هذا الداء في كثير من مناطق العالم، فالمستشفيات، والمؤسسات الصحية، ودور عيادات الأطباء الخاصة تستقبل كل يوم سيلاً عارماً من المصابين به، وبالرغم من المعالجات الحديثة له كالبنسلين وغيره، فإنه قد انتشر بصورة هائلة، وكان من آثاره الإصابة (بالهستريا) وقد ضجت المستشفيات العقلية بالمصابين من جرائه، كما كثرت عدد ضحاياه في العالم، وهو في نفس الوقت يحول دون نمو الاقتصاد العام الذي يتوقف على ازدهار الصحة، وتقدمها في البلاد، كما يستهلك قسماً كبيراً من الاقتصاد العام لشراء الأدوية والعقاقير لإسعاف المصابين، وإنقاذهم مما هم فيه.
ومن مظاهر الشذوذ الجنسي تفشي الحبوب المسقطة للحمل، وانتشارها بين الفتيات اللاتي يمارسن البغاء، ويخشين من الحمل، وقد انتشر ذلك بصورة مؤسفة في الجامعات والمعاهد الغربية فقد كثر فيها الإجهاض والسقط ومن الطبيعي أن لذلك أثراً كبيراً على صحة المرأة وإرهاقها مضافاً لتقليله للنسل ومن نتائج هذا الانحراف والشذوذ كثرة اللُّقطاء فقد فحشت هذه النسبة في عواصم الغرب، واهتمت الحكومات هناك ببناء الملاجئ لاستقبال هذا البشر المنكوب، الذي يفقد العطف الأبوي، وهو يمنى بكثير من العقد النفسية ـ كما يقول علماء النفس ـ ومن أخطر ما يصاب به أنه يمنى بقساوة الخلق والطبع والضغينة على المجتمع... هذه بعض الأخطار التي تنجم عن الفوضى الجنسية، وهي تهدد الأسرة بأمواج من الآثام الطاغية حتى ليوشك أن تغرق فيها.
عقوق الأبناء
ومن مظاهر ما منيت به الأسرة من الانحلال ـ في هذه العصور ـ انفصال الأبناء عن آبائهم انفصالاً متميزاً في الرأي والعقيدة والاتجاه، فقد عملت التربية الحديثة بما تملك من طاقات مادية وحضارية على الزهد والتشكيك بقيم الآباء وعاداتهم وأفكارهم، وأصبح الأبناء ناقمين على مثل آبائهم وقيمهم، ونتج من ذلك نضال فكري وثوري على المثل القديمة، والنبذ لكل ما يعتنقه الآباء من القيم والتقاليد الاجتماعية، كما نتج صراع آخر عنيف وحاد فيما بينهم، فالآباء دوماً يشكون ما يعانونه من عقوق أبنائهم، وسوء آدابهم، ويحكون صوراً متنوعة من جفائهم، وعدم حشمتهم، ومقابلتهم بالقسوة والحرمان.
يقول المربي (جون ديوي):
(ومن البعث أن نندب ذهاب تلك الأيام القديمة السعيدة على مناقب أولادنا، والحشمة، والاحترام والطاعة الخلقية إذ النوح لا يعيد الذاهب، وبكاء ما فات يزيد الحسرات، فإن التغييرات الحادثة نتائج نواميس طبيعية، ولا يقابلها إلا تغيير كاف في التهذيب...).
وهو رأي وثيق للغاية فإن التغييرات الحادثة في نظام الأسرة وغيرها من الأنظمة التربوية والاجتماعية قد أوجبت تمرد الأبناء، وخروجهم من حدود الطاعة وهيهات أن تعود إلى الطبيعة الأولى من دون أن يكون هناك تهذيب للطباع، وتهذيب للغرائز، وغرس للنزعات الخيرة في أعماق النفوس.
التحلّل والميوعة
ومنيت كثير من الأسر الحديثة بألوان فظيعة من التحلل والانحراف. فقد أسرفت في التفنن بأنواع الملذات والمحرمات مما أدى إلى انهيار الأخلاق، وانحطاط السلوك. ومن الطبيعي أن الانسياق وراء اللهو يخلق جيلاً غير متماسك لا يعنى بالقيم الإنسانية ولا بالمثل الاجتماعية، فالطفل الذي يشاهد أبويه، وهما عاكفان على إدمان الخمر، وتبادل الرذائل فإنه حتماً يتأثر بذلك في سلوكه توجيهه.
يقول بعض الباحثين في الشؤون التربوية:
(لقد أصبحت الأسرة جواً مخزياً للتربية بصورة عامة لأن الآباء والأمهات في العصر الحديث قد تجاوزوا الحد المقرّر في السذاجة أو العصبية أو الضعف أو الشدة، وربما يعلّم أكثرهم بعض العيوب لأطفالهم.
أكثر الأطفال الذين يجدون صوراً مختلفة عن سوء الأخلاق والفساد، والمشاكسة والسكر في البيت والأسرة، والكثيرون منهم إن لم يجدوا مثل هذه القضايا في البيت فلابد وأنهم تعلّموها من أصدقائهم. فيمكن القول بلا مبالغة أن كثيراً من الآباء والأمهات في العصر الحديث يجهلون تربية أطفالهم مهما كانت الطبقة التي ينحدرون منها. والمدارس أيضاً لا تستطيع أن تؤدي واجبها لأن الأساتذة لا يختلف سلوكهم عن سلوك الأبوين كثيراً...).
إن انحراف الناشئة وفساد سلوكها يستند ـ على الأكثر ـ إلى ميوعة الأسرة وتحللها، ولا نعدو الصواب إذا قلنا إن كفة إصلاح الأسرة يفوق سائر العوامل التربوية الأخرى فهي المدرسة الأولى التي تؤثر أثراً مباشراً على السلوك والتوجيه
الأسرة في الإسلام
وأقام الإسلام نظام الأسرة على أسس سليمة تتفق مع ضرورة الحياة وتتفق مع حاجات الناس وسلوكهم، واعتبر الغريزة العائلية من الغرائز الذاتية التي منحها الله للإنسان قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) - سورة الروم: 20 – فهذه الظاهرة التي فطر عليها الإنسان منذ بدء تكوينه من آيات الله ومن نعمه الكبرى على عباده.
وشيء آخر جدير بالاهتمام هو أن الإسلام يسعى إلى جعل الأسرة المسلمة قدوة حسنة وطيبة تتوفر فيها عناصر القيادة الرشيدة قال تعالى حكاية عن عباده الصالحين: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) - سورة الفرقان: 74 - وأهم قاعدة من قواعد التربية أن توجد عملياتها التربوية القدوة الحسنة، والمثل الأعلى للخير والصلاح.
وقد ألمعنا في بحوث الوراثة إلى اهتمام الإسلام البالغ على أن تقوم الرابطة الزوجية على الاختبار والفحص حذراً من أن يكون أحد الزوجين مصاباً ببعض العاهات فتسري إلى أبنائهم فينشأ في المجتمع أفراد مشوهون في سلوكهم واتجاهاتهم، كما جعل الإسلام لأب الفتاة ولاية عليها، وشرّك بينهما في اختيار الزوج الصالح لها حذراً من أن تختار بمفردها زوجاً من ذوي العاهات فتجر لنفسها الويلات والشقاء، وتبتلي منه بذرية طالحة تشقى ويشقى بهم المجتمع، ومن الطبيعي أنها لا تحسن اختيار الزوج الصالح لها فإنها لا تعلم من الحياة إلا قشورها، وهي تحكم على خطيبها بما يبديه لها من حديث مصطنع ووعود خلاّبة، وما ينمقه لها من رسائل الغرام، أو ما يتمتع به من حسن الصورة والتجميل والتزيين بالأزياء المغرية وهي ـ بصورة جازمة ـ لم تطلّع على مكر الحياة وخبث الفاسقين، وكيد العاشقين، ولم تعرف كذب الوعود، ورياء العهود، ولم تفقه أن الزواج السعيد الذي يحقق أحلامها وآمالها إنما يكون إذا اقترنت برجل شريف النفس كريم الخلق، صادق الإيمان حتى يعني بشؤونها وحقوقها، وتنجب منه الذرية الطيبة التي تكون قرّة عين لها في حال كبرها وشيخوختها... وهذا هو ما يريده الإسلام لها.
وعلى أي حال فإن نظام الأسرة الذي سنّه الإسلام يقوم على أساس من الوعي والعمق لما تسعد به الأسرة، ويؤدي إلى تماسكها وترابطها من الناحية الفيزيولوجية، والنفسية، والاجتماعية، بحيث ينعم كل فرد منها، ويجد في ظلالها الرأفة والحنان والدعة والاستقرار.
إن الإسلام يحرص كل الحرص على أن تقوم الرابطة الزوجية ـ التي هي النواة الأولى للأسرة ـ على المحبة، والتفاهم والانسجام، وهو الزواج المثالي الذي عناه (هاميلوك اليس) بقوله: (لا يقوم الزواج المثالي حقاً على توافق الشهوة فقط، وإنما يقوم على اتحاد غير شهواني، أساسه مودّة عميقة تتوثق على ممر الأيام وتشمل شتى نواحي الحياة، وهو اتفاق الأذواق، والمشاعر والميول، وهو اتفاق على الحياة المشتركة، بما قد تستلزمه من أعباء الأبوة). (التربية الجنسية: ص28)
وهذا هو ما ينشده الإسلام في الرابطة الجنسية أن تكون مثالية، وتقوم على أساس وثيق من الحب والتفاهم حتى تؤدي العمليات التربوية الناجحة أثرها في تكوين المجتمع السليم.
لقد شرع الإسلام جميع المناهج الحية الهادفة إلى إصلاح الأسرة ونموّها وازدهار حياتها، فعني بالبيت عناية خاصة، وشرع آداباً مشتركة بين أعضاء الأسرة، وجعل لكل واحد منها واجبات خاصة تجاه أفراد أسرته، وهي مما تدعو إلى الترابط، بالإضافة إلى أن لها دخالة إيجابية في التكوين التربوي... ولابد لنا من عرض ذلك، على سبيل الإيجاز.
أهمية البيت
وللبيت أهميته البالغة في التربية، فمن طريقه تحقّق البيئة الاجتماعية آثارها التربوية في الأطفال، فبفضله تنتقل إليهم تقاليد أمتهم، ونظمها، وعرفها الخلقي، وعقائدها وآدابها وفضائلها، وتاريخها، وكثير مما أحرزته من تراث في مختلف الشؤون، فإن وفق المنزل في أداء هذه الرسالة الجليلة حققت البيئة الاجتماعية آثارها البليغة في التربية، وإن فسد المنزل، فإن الطفل حتما يفسد، ولا تكون له أية شخصية. إن المنزل يقوم بأكثر من دور في حياة الطفل، فهو المنبع الطبيعي للعطف والحنان، فمنه يستمد حياته المطمئنة الهادئة.. (عوامل التربية: ص90، التعليم: ص87، الأسرة والمجتمع: ص19)
وقد عني الإسلام به عناية خاصة فأمر بأن تسود فيه المحبة والمودة، وترك الكلفة، واجتناب هجر القول ومرّه، فإن لذلك أثراً عميقً في تكيّف الطفل، وإذا لم يوفق البيت لأداء مهمته، فإن الطفل يصاب بانحرافات خطيرة، منها القضاء على شعوره بالأمن، وتحطيم ثقته بنفسه، وغير ذلك مما نص عليه علماء النفس.
المناهج المشتركة
وجعل الإسلام مناهجاً مشتركة بين جميع أعضاء الأسرة، ودعاهم إلى تطبيقها على واقع حياتهم حتى تخيّم عليهم السعادة، ويعيشون جميعاً في نعيم وارف وهي:
1ـ الحب والمودة:
دعا الإسلام إلى سيادة الحب والمودة والتآلف بين أفراد الأسرة وأن يجتنبوا عن كل ما يعكر صفو الحياة والعيش، وتقع المسؤولية بالدرجة الأولى على المرأة فإنها باستطاعتها أن تحوّل البيت إلى روضة أو جحيم، فإذا قامت بواجبها، ورعت ما عليها من الآداب كانت الفذة المؤمنة فقد أثر عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن شخصاً جاءه فقال له: إن لي زوجة إذا دخلتُ تلقّتني، وإذا خرجت شيعتني، وإذا رأتني مهموماً قالت ما يهمك؟ إن كنت تهتم لرزقك فقد تكفل به غيرك، وإن كنت تهتم بأمر آخرتك فزادك الله هماً.
فانبرى (صلّى الله عليه وآله) يبدي إعجابه وإكباره بها وقال: (بشّرها بالجنة، وقل لها: إنك عاملة من عمال الله). (مكارم الأخلاق: ج1، ص229)
وإذا التزمت المرأة برعاية زوجها، وأدّت حقوقه وواجباته شاعت المودة بينها وتكوّن رباط من الحب العميق بين أفراد الأسرة الأمر الذي يؤدي إلى التكوين السليم للتربية الناجحة.
2ـ التعاون:
وحث الإسلام على التعاون فيما بينهما على شؤون الحياة، وتدبير أمور البيت وأن يعيشوا جميعاً في جو متبادل من الود والتعاون، والمسؤولية تقع في ذلك على زعيم الأسرة وهو الزوج، فقد طلب الإسلام منه أن يقوم برعاية زوجته ويشترك معها في شؤون منزله، فقد كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يتولى خدمة البيت مع نسائه، وقال: (خدمتك زوجتك صدقة) وكان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يشارك الصدّيقة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام) في تدبير شؤون المنزل ويتعاون معها في إدارته، ومن الطبيعي أن ذلك يخلق في نفوس الأبناء روحاً من العواطف النبيلة التي هي من أهم العناصر الذاتية في التربية السليمة.
3ـ الاحترام المتبادل:
وحث الإسلام على تبادل الاحترام، ومراعاة الآداب بين أعضاء الأسرة فعلى الكبير أن يعطف على الصغير، وعلى الصغير أن يقوم بإجلال الكبير وتوقيره، فقد أثر عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال في جملة وصاياه العامة: (فليعطف كبيركم على صغيركم، وليوقر صغيركم كبيركم..) إن مراعاة هذه الآداب تخلق في داخل البيت جواً من الفضيلة والقيم الكريمة، وهي توجب تنمية السلوك الكامل في نفس الطفل، وتبعثه إلى الانطلاق في ميادين التعاون مع أسرته ومجتمعه، وقد ثبت في علم التحليل النفسي بأن قيم الأولاد الدينية والخلقية إنما تنمو في محيط العائلة. (كيف تساعد أبناءك في المدرسة: ص
193
)..
مسؤولية أفراد الأسرة في الاسلام
وإذا منيت الأسرة بعدم الانسجام والاضطراب فإن أفرادها يصابون بآلام نفسية، واضطرابات عصبية، وخصوصاً الأطفال فإنهم يمنون بفقدان السلوك والانحراف، وقد ظهرت الدراسات والبحوث التربوية الحديثة أن من أهم الأسباب التي تؤدي إلى انحراف الأحداث هو اضطراب الأسرة وعدم استقرارها فتنشأ منه الأزمات التي تؤدي إلى انحرافهم. (المذنبون الصغار)
لذا من اللازم الحفاظ على استقرار الأسرة، وإبعادها عن جميع عوامل القلق والاضطراب حفاظاً على الأحداث، وصيانة لهم من الشذوذ والانحراف.
مسؤوليات الأب
والأب ليس مسؤولاً عن الحياة الاقتصادية وتوفيرها لأبنائه فحسب، وإنما هو مسؤول عن تربيتهم، وتهذيبهم، وتأديبهم، وتوجيههم الوجهة الصالحة، وأن يعوّدهم على العادات الطيبة، ويحذّرهم من العادات السيئة. يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام):
(وأما حق ولدك، فتعلم أنه منك، ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره، وأنك مسؤول عمّا ولّيته من حسن الأدب، والدلالة على ربه والمعونة له على طاعتك فيك، وفي نفسه، فمثاب على ذلك، ومعاقب، فاعمل في أمره عمل المتزيّن بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا، المعذر إلى ربه فيما بينك وبينه بحسن القيام عليه، والأخذ له منه..). (تحف العقول: ص263)
وكان هذا الإمام العظيم يدعو لولده بهذا الدعاء: (اللهم.. واجعلهم أبراراً أتقياءً بصراءً سامعين مطيعين لك ولأوليائك محبين ناصحين، ولجميع أعدائك معاندين ومبغضين..). (الصحيفة السجادية)
إن الأب مسؤول عن تربية أبنائه تربية صالحة ليكونوا قرّة عين له في مستقبله، وكان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يعنون بهذه الجهة ويولونها المزيد من الاهتمام، يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) المربي الأول في الإسلام إلى ولده الإمام الحسن (عليه السلام): (وجدتُك بعضي بل وجدتك كلّي حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي..).
إن الولد ليس بعضاً من الأب بل هو نفسه يحكي وجوده وكيانه فعليه أن يهتم بشؤونه التربوية، وأن يعني في تهذيبه، وكماله ليكون فخراً وزيناً له، أما إذا أهمل تربيته، ولم يعن بشؤونه يغدو نقمة ووبالاً عليه..
ونعرض فيما يلي إلى بعض مسؤوليات الأب:
1ـ العناية بالأبناء:
على الأب أن يعني أشد العناية بأبنائه، وأن يوليهم المزيد من اهتمامه ويغدق عليهم العطف والحنان، ويقوم بتكريمهم أمام الغير فإن لذلك أثره الفعال في بناء كيانهم التربوي، وازدهار شخصيتهم ونموهم الفكري وعلى هذا الأساس الخلاّق كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يرعى سبطه وريحانتيه الحسن والحسين، فكان يحملهما ويقول: (هذان ريحانتيّ من الدنيا، من أحبني فليحبهما..). وكان يقول لبضعته سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام): (ادعي ابنَي، فتأتي بهما إليه فيشمهما ويضمهما إليه). (حياة الإمام الحسن: ج1، ص83)
وروي أن الأقرع بن حابس لما رأى شدة إقبال النبي (صلّى الله عليه وآله) على حفيديه قال له: إن لي عشرة من الأولاد، ما قبلت واحداً منهم..
فغاظ النبي ذلك وقال له: (ما عليّ إن نزع الله الرحمة منك). (مكارم الأخلاق: ج1، ص252)
لقد سكب النبي (صلّى الله عليه وآله) في نفس ولديه الحسن والحسين (عليهما السلام) مُثُله وهديه، وأفاض عليهما نزعاته الرحيمة حتى صارا بحكم تربيته من أروع أمثلة التكامل.. وقد حفلت سيرتهما الندية بكل مظاهر العظمة والخلود وكل ما تعتز به الإنسانية في جميع أدوار تاريخها، سمواً في الخلق، وسمواً في الذات، وانطلاقاً في ميادين الحق والخير، إن عناية الآباء بأبنائهم وإغداق اللطف والحنان عليهم من أهم المقومات للكيان التربوي الذي تزدهر به شخصية الطفل، ويكون بمنجى من العقد النفسية التي هي من أخطر الأمراض التي يصاب بها الإنسان... لقد أثبتت البحوث التربوية الحديثة أن المواطنين الصالحين، ورجال العلم الطيبين إنما يأتون من الأسر التي تعنى بالأطفال، وترغب فيهم. (التربية الطفل وسيكولوجيا الطفل، ص305)
وقد أكد علماء النفس هذه الظاهرة، كما ذكروا أن الأبناء المنبوذين من أسرهم يبدون سلوكاً عدوانياً، ويكونون سلبيين، مشاكسين، متمردين، وكثيراً ما يبرعون في ابتكار الحيل التي تضايق الكبار، كما يظهرون الميل إلى السلوك الإجرامي. (علم النفس التربوي: ج3، ص100)
أما مظاهر النبذ فهي:
1ـ القسوة في معاملة الطفل وأخذه بالشدة المسرفة.
2ـ استعمال العقاب البدني القاسي.
3ـ نقد الطفل نقداً مستمراً، وكشف معايبه له، وخاصة أمام الغير.
4ـ الإسراف في إهماله واتهامه.
5ـ عدم ذكره بخير.
6ـ الغض من شأنه بالقياس إلى أخوته.
7ـ إبداء الدهشة والاستغراب إذا ذكره بعض الناس بخير. (علم النفس التربوي: ج3، ص101-102)
فيجب على الآباء أن يبتعدوا في معاملة أبنائهم عن هذه الطرق الملتوية حفاظاً على سلوكهم، ووقاية لهم من الشذوذ والانحراف.
2ـ المساواة بينهم:
وينبغي للأب أن يغمر جميع أولاده بالحب ويساوي بينهم بالحنان، والعطف والرعاية، فإن اختصاص بعضهم بذلك، وحرمان الباقين منه مما يؤدي إلى العقد النفسية. والغيرة والحفيظة، ونشوب الثورات الانفعالية في نفوسهم، كما تجعلهم عرضة للإصابة بأمراض عصبية خطيرة.
وحكى القرآن الكريم قصة يوسف حينما آثره أبوه يعقوب، وميّزه على بقية أبنائه فأجمع رأيهم على الكيد له، فألقوه في غيابة الجب، وجاءوا أباهم عشاءً يبكون فحزن عليه يعقوب حتى ابيضت عيناه فهو من الحزن كظيم، وهذه المحنة الكبرى التي دهمته كانت نتيجة الأثرة، وتقديمه ليوسف على أخوته، وقد أثر عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (اعدلوا بين أولادكم في السر، كما تحبون أن يعدل بينكم في البر واللطف).
ونظر (صلّى الله عليه وآله) إلى رجل له ابنان فقبّل أحدهما وترك الآخر، فنهره (صلّى الله عليه وآله) وقال له: (هلاّ ساويت بينهما). (مكارم الأخلاق: ج1، ص252)
إن المساواة بين الأبناء عنصر من عناصر التربية الإسلامية، فليس للأب أن يميّز بعض أبنائه على بعض، كما أنه ليس من الإسلام في شيء أن يخص أبناءه بعطفه وإحسانه، ويحرم بناته من ذلك، أو يخص بعض أبنائه بشيء من أمواله ويحرم الباقين فإن ذلك يؤدي إلى نشوب العداء والكراهية فيما بينهم، بالإضافة إلى أنه يسبب تأخراً في كيانهم التربوي، كما يؤدي إلى اضطرابهم النفسي، وعدم تفاعلهم مع بقية أفراد المجتمع.
والظاهرة الغريبة، في الطفل الذي يفقد العطف الأبوي أنه يحمل في نفسه عقداً نفسية وضغينة على المجتمع، وقساوة في الخلق، وأنه يصاب بما يلي:
1ـ الكذب.
2ـ السرقة.
3ـ القسوة.
4ـ الشرور.
5ـ الهجوم على الغير.
يقول (ولالبري): إن الكره الأبوي للطفل يستطيع دائماً أن يعوق الطفل عن التكيف في الحياة، وذلك بالقضاء على شعوره بالأمن، وتحطيم ثقته بنفسه، وقد أثبتت البحوث النفسية الحديثة أن من أهم أسباب القلق يرجع إلى انعدام الدفء العاطفي في الأسرة، وشعور الطفل بأنه شخص منبوذ محروم من الحب والعطف والحنان، وأنه مخلوق ضعيف يعيش وسط عالم عدواني، كما أنه عدم العدالة بين الأخوة توقظ مشاعر القلق في نفسه ويقتل فيه روح البصيرة التي تعينه على أن يشق طريقه في يسر وطمأنينة والرجل القلق دوماً يحس بالهلاك والعذاب النفسي أينما وجد. (التكيف النفسي: ص21-22)
على الآباء أن يعدلوا بين أبنائهم، ويجنبوهم هذا الداء الخطير الذي ينخر في كيانهم النفسي.
3ـ إشاعة الود:
على الأب أن يغمر بيته بالود والعطف، ويشيع بين أهله الحب والحنان، وأن يقابل خصوص زوجته بالإحسان، ويوفر لها جميع ما تحتاج إليه فإن ذلك ـ أولاً ـ من حقوقها الطبيعية التي فرضها الله ـ وثانياً ـ أنه يبعث على التربية الصحيحة للطفل وازدهار شخصيته، لأنه يعيش في جو من الحب والدعة والاستقرار... وحث الإسلام على مراعاة الزوجة، يقول الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله): (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي). وقال (صلّى الله عليه وآله): (عيال الرجل أسراؤه، وأحب العباد إلى الله عز وجل أحسنهم صنيعاً إلى أسرائه..).
وقال الإمام الباقر (عليه السلام): (رحم الله عبداً أحسن فيما بينه وبين زوجته فإن الله عز وجل قد ملّكه ناصيتها، وجعله القيم عليها..).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (اتقوا الله في الضعيفين ـ يعني المرأة والمملوك..).
كما أن على الأب أن لا يتطاول على أهله، وأن لا يظلمهم، فقد أثر عن الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (خير الرجال من أمتي الذين لا يتطاولون على أهليهم، ويحنون عليهم، ولا يظلمونهم، ثم قرأ قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ..). (مكارم الأخلاق: ج1، ص248)
إن طبيعة الأب، ومعاملته لأسرته تترك أعمق الأثر في تكيف الطفل فإن كانت معاملته حسنة ازدهرت شخصية الطفل، وإن كانت سيئة تركت في سلوكه أسوأ الأثر، وأوقفت نموه الفكري.
4ـ اجتناب فحش القول:
والأب باعتباره عميد الأسرة فهو مسؤول عن إقامة الكيان التربوي فيها، وعليه أن يجتنب فحش القول، وبذاءة الكلام، وكل ما يخل بالآداب العامة، وإن يقيم في بيته العفة والطهارة، ويجنب أهله المنكر وسيئ القول فإن كلامه وسيرته تنفذ إلى أعماق قلوب أبنائه، وتنطبع فيها سيرته وأخلاقه.
إن الطفل لا ينشأ نشأة سليمة، وهو يشاهد أبويه يفعلان المنكر، ويقترفان الإثم، وإن الأب الذي يكذب ويطلب من طفله أن يكون صادقاً فإنه لا ينصاع لقوله، وإنما يتبع عمله وسيرته...على الأب إذا أراد أبناءه أن يكونوا قرّة عين له في مستقبله فعليه أن يطبق على واقع حياته الصفات الكريمة وأن يسير سيرة طيبة ليكون قدوة حسنة لأهله وغيرهم.
5ـ مراقبة سلوك الأبناء:
إن الجرائم الأخلاقية التي تصدر عن الأحداث كثيراً ما تنشأ من عدم مراقبة آبائهم، وإهمالهم لما يصدر منهم من شذوذ وانحراف، ومن الطبيعي أن الطفل الذي لم يكتمل وعيه ولا رشده لا يميز بين الخير والشر، فإنه حينما يرتكب القبيح، ويرى غض النظر عنه أو قراره له، فإنه يتمادى في الشر والإثم حتى ينطبعا في نفسه، ويصبحا عادة له.
لقد حث الإسلام على مصاحبة الأبناء في سنهم المبكر، ومراقبة سلوكهم خوفاً عليهم من التلوث بالجرائم التي تسبب انحرافهم عن السلوك النير. ومن المؤسف إهمال الآباء ـ في هذه العصور ـ لهذه الجهة التي يتوقف عليها مصير الأبناء في مستقبلهم، وقد أدى هذا الإهمال الفظيع إلى التسيّب والانحلال الذي مني به أكثر الأبناء، فقد أصبح التهوّر والشذوذ طابعاً لهم في كثير من سلوكهم، وأخلاقهم.
ومن أبشع ألوان الإهمال، وأكثرها انحرافاً عن المناهج التربوية الصحيحة ترك الآباء لبناتهم مع زملائهن في الدراسة في المعاهد والكليات وهم في سن مماثلة من دون أن تكون منهم أية مراقبة، ومن الطبيعي أن ذلك يؤدي في كثير من الأحيان إلى سقوط عفة الفتاة، وانحرافها عن موازين الاستقامة في سلوكها.
وعلى أي حال فإن الأب مسؤول أمام الله عن مراقبة سلوك أبنائه وإبعادهم عن جميع النزعات الشريرة، يقول الغزالي:
(اعلم أن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها، والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة خالية عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، وماثل إلى كل ما يمال إليه، فإن عُوّد الخير وعلمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم ومؤدب، وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيّم عليه، والوالي له، وقد قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) ومهما كان الأب يصونه عن نار الدنيا فبأن يصونه عن نار الآخرة أولى، وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق، ويحفظه عن قرناء السوء، ولا يعوده التنعّم، ولا يحبّب إليه الزينة، وأسباب الرفاهية فيضيع عمره في طلبها إذا كبر فيهلك هلاك الأبد، بل ينبغي أن يراقبه من أول أمره، فلا يستعمل في حضانته وإرضاعه إلا امرأة صالحة متدينة تأكل الحلال فإن اللبن الحاصل من الحرام لا بركة فيه فإذا وقع عليه نشوء الصبي عجنت طينته من الخبث فيميل طبعه إلى ما يناسب الخبائث..). (تاريخ التربية: ص82)
ورأي الإمام الغزالي رأي وثيق للغاية تؤكده البحوث التربوية الحديثة فإن مراقبة الطفل في سنة المبكر وتعويده العادات الطيبة وإبعاده عن النزعات الشريرة تؤدي إلى سعادته ونجاحه في الدنيا والآخرة كما أن إهماله وعدم مراقبته مما يؤدي إلى شقائه وهلاكه.
6ـ تأديب الأطفال:
إن واجب الأب الإسراع في تأديب أطفاله، إذا شذّوا في سلوكهم أو ارتكبوا ما يخالف التقاليد الدينية والاجتماعية، أو ما يجافي الآداب العامة فإن اللازم عليه الإسراع في تأديبهم بما يقلع روح الشر والتمرد منهم.. وقد كد الإسلام ذلك فقد أثر عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (لأن يؤدب أحدكم ولده خير له من أن يتصدق بنصف صاع كل يوم..). (مكارم الأخلاق: ج1، ص270)
وفي حديث آخر: (أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم يغفر لكم).
إن الشذوذ الذي يصيب الأطفال ويظل ملازماً لهم إنما هو ناتج ـ على الأكثر ـ من إهمال الآباء، وعدم قيامهم بتأديب أطفالهم إذا انحرفوا عن الطريق القويم.
يقول الشيخ النراقي: (إن الصبي إذا أهمل في أول نشئه خرج ـ في الأكثر ـ رديء الأخلاق والأفعال فيكون كذاباً حسوداً، لجوجاً عنوداً، سارقاً خائناً، ذا ضحك وفضول، وربما صار مخنثاً مائلاً إلى الفسق والفجور..). (جامع السعادات: ج1، ص270-271)
أما كيفية تأديبه فسوف نتحدث عنها في البحوث الآتية.
7ـ إبعاد الطفل عن العملية الجنسية:
ونهى الإسلام عن أن يغشى الرجل أهله أمام أبنائه فإن ذلك مما يوجب تهيّج الشهوة عندهم، وانطلاقهم في ميادين الدعارة والفجور، يقول الإمام الباقر (عليه السلام) لجابر: (إياك والجماع حيث يراك صبي يحسن أن يصف حالك). (طب الأئمة: ص135)
وقال الإمام أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): (لا يجامع الرجل امرأته ولا جاريته وفي البيت صبي، فإن ذلك مما يورث الزنا). (المحاسن: ص317، وسائل الشيعة: ج7، ص95)
وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (والذي نفسي بيده لو أن رجلاً غشي امرأته وفي البيت صبي مستيقظ يراهما، ويسمع كلامهما، ونفسهما، ما أفلح أبداً إن كان غلاماً كان زانياً أو جارية كانت زانية..). (فروع الكافي: ج2، ص58)
وقد أكد علماء التربية الجنسية ضرورة إبعادهم عن ذلك، يقول (سيرل بيسبي): (وما دامت الناحية الجنسية موجودة عند الجميع حتى عند الأطفال منذ مولدهم، ولو بقيت في حالة الكمون حتى سن البلوغ فمن المهم أن تتفادى الإتيان بأي عمل قد يستثيرها قبل أوانها، وثمة آباء لا يرون إبعاد الطفل عن الحجرة عندما يخلعون ملابسهم، ولكنهم يتمادون في هذا السبيل، ويظنون أن واجبهم يحتم عليهم ـ باعتبارهم ـ من التقدميين المجددين (أو المثقفين) أن يوفروا الفرص لكي نراهم عراة ولكن متى تكررت رؤية الطفل فإنها عن قريب تولد بدورها اهتماماً زائداً بخصائصه في نفسية الطفل). (التربية الجنسية: ص55)
إن نفسية الطفل سريعة التأثر والانفعال بما تراه، ولذلك كان من الضروري إبعاده عن كلّ ما يثير الشهوات وفساد الأخلاق صيانة له من الانحراف والشذوذ، ولما لم تعن التربية الغربية بذلك منيت أبناؤها بالانحلال النفسي وسائر المشكلات الجنسية، وتدهور الأخلاق، وانعدام الروابط الاجتماعية.
8ـ إبعاد الطفل عن تناول الحرام:
على الأب أن يحرص كل الحرص على تعويد أطفاله ـ منذ نعومة أظفارهم ـ على تناول الحلال وإبعادهم عما حرّمه الله كالمغصوب من الطعام أو نجس العين كلحم الخنزير، أو ما كان نجساً بالعارض كالطعام الذي يتلوث بالنجاسة الخارجية وغيرها مما ذكره فقهاء المسلمين في رسائلهم العملية.. فعلى الأب أن يسعى جاهداً في تعويدهم في ذلك فإن للتغذية أثراً فعالاً في سلوك الطفل، وتنميته حسب ما دلّت عليه البحوث الطبية الحديثة.
إن الإسلام شديد الحساسية بكل ما يعوق نمو الطفل، وازدهار شخصيته، والتغذية الملوثة بالحرام تؤثر أثراً ذاتياً في دخائل النفس، وتوقف فعالياتها السلوكية، فتغرس فيها النزعات الشريرة كالقسوة، والاعتداء والهجوم المتطرف على الغير... وقد راعى الإسلام باهتمام هذه الجوانب، فألزم بإبعاد الطفل عن الغذاء الحرام فقد أثر عن الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) أنه رأى ريحانته، وسبطه الأول الإمام الحسن (عليه السلام) قد أخذ من تمر الصدقة فجعلها في فيه، وكان طفلاً فزجره وقال له: (ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة..). (رياض الصالحين: ص147)
ولما حُملت عيال أبي الضيم الإمام الحسين (عليه السلام) أسرى إلى الكوفة بعد كارثة كربلاء الخالدة في دنيا الأحزان، انبرى بعض الكوفيين حينما رأى أطفال الإمام وهم يعانون آلام الجوع وقسوته فناولهم بعض التمر والجوز متصدقاً بها عليهم فزجرتهم السيدة أم كلثوم حفيدة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) وعرّفتهم أنها صدقة، وهي محرمة على أهل البيت فأسرعت الصبية إلى رميها من أفواهها..
ولمحافظة أهل البيت (عليهم السلام) على هذا السلوك النير في ميادين التربية نشأت فهيم تلك الناشئة الطيبة التي لم يعرف التاريخ مثيلاً لها صدقاً في القول، وعفة في السلوك، ونزاهة في القصد.
إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن بعض مسؤوليات الأب، وواجباته تجاه أبنائه ومن يعول به.
مسؤولية الأم
إن الأم هي المدرسة الأولى في بناء شخصية الطفل، وإكسابه العادات فإذا كانت مهذبة كريمة تم إنشاء جيل صالح. متّسم بالاتزان في سلوكه، وإذا لم تكن مهذبة فإن الجيل حتماً يصاب بالتحلّل، ويمنى بكثير من المفاسد.
إن الأم تتحمل مسؤولية اجتماعية كبيرة. فإنها مسؤولة عن مستقبل الأمة وصلاحها وانطلاقها، فهي بمهدها وحضانتها اللبنة الأولى في بناء الكيان التربوي الصالح أو الطالح.
إن أهم ناحية في تربية الطفل تستند إلى الأم، فهي التي تبني الأسس لاتجاهات الطفل وأخلاقه، وهي التي توجهه نحو الفضائل والطموح، والإقدام، والعمل والاعتماد على النفس... وهذه الأسس التي يكتسبها الطفل قبل الثامنة من عمره يصعب تبديلها كلياً فيما بعد ولذلك فإن أثرها في حياة الشعوب ورقيها كبير جداً فإذا اعتاد الولد أن يكون طموحاً ومقداماً ونشيطاً ومثابراً في أعماله، ويتقن ما يعمل فإنه من الطبيعي يكون ركناً قوياً لقيام شعب يتمتع بطاقات كبيرة لإنجاز الأعمال وبناء الحضارة المزدهرة. (الإدارة التربوية: ص9)
لقد توفرت في الأم بعض الدوافع الذاتية لرعاية الطفل وتربيته، ولعل من أهمها ـ فيما نحسب ـ هي:
1ـ إنها أصبر من غيرها على تربية أطفالها ورعايتهم لأنها مدفوعة بدافع فطري ذاتي، فقد أوجد الله في قرارة نفسها الحب العميق لأطفالها وجعلهم ثمرة لقلبها ومهجتها. ولولا ذلك لما أمكن أن يعيش الطفل ويحيا.
2ـ إنها أكثر درايةً وإمعاناً بأخلاق أبنائها ونفسياتهم، وأبصر بالوسائل السليمة التي تجدي في توجيههم بعثاً نحو الخير، وزجراً عن الشر.
3ـ إن الطفل يستجيب لأمه بحكم فطرته، وحاجته إليها، فهو يسعى جاهداً لتنفيذ رغباتها. وكسب رضاها.
هذه بعض الأمور التي تحمل الأم المسؤولية الخطيرة عن التربية الواعية لأبنائها.
• واجباتها
وعلى الأم التي تريد أن ترى من أبنائها قرة عين وذخيرة لها في مستقبلها أن تسهر على تربيتهم، وترعى سلوكهم، وتبث في نفوسهم النزعات الطيبة والمثل الكريمة، ونعرض فيما يلي لبعض المناهج التي ينبغي لها أن تطبّقها على واقع تربيتها:
1ـ تحبذ لهم كل سلوك طيب، وتلمسهم النتائج الشريفة التي تترتب على فعله، وتشجيعهم عليه بجميع طاقاتها.
2ـ أن تجنّبهم عن كل طريق إجرامي أو عادة سيئة، وتخوفهم من سلوك أي جهة لا تتفق مع العادات الدينية، والاجتماعية، وتدلل لهم على ما يترتب عليها من الضرر لهم، وللأسرة والمجتمع.
3ـ عليها أن تربى بناتها بالطهارة والعفة، وترشدهن إلى محاسن النساء الخالدات، وتحذرهن من الاستهتار وخلع الحجاب، وارتداء بعض الأزياء التي ترتديها الفتاة الغريبة التي لا تشعر بالعفة والكرامة... على الأم أن ترعى باهتمام أمر بنتها، فتراقبها، وتتفحّص شؤونها، حتى لا تتلوث بالأخلاق الفاسدة التي دهمت بلاد المسلمين، وغزت حياتهم الفكرية والعقائدية.
إن البنت أطوع لأمها من الولد، وأحرص منه على كسب رضائها وذلك لشدة حاجتها إليها، فعلى الأم أن تتعاهدها، وتصلح شأنها وتروّضها على إدارة المنزل وتشعرها بأعباء الحياة لتؤدي البنت في مستقبلها دوراً مشرقاً وتكون أمة طيبة لنشء آخرين.
4ـ أن لا تسرف في دلال أطفالها فإن لذلك من المضاعفات السيئة التي توجب تأخر التربية، وعدم قابلية الطفل في مستقبل حياته لتحمل مشاق الأمور ومصاعبها.
5ـ أن تشعر أبناءها بمقام أبيهم، ولزوم تعظيمه، واحترامه حتى يتسنى له القيام بتأديب من شذّ منهم، وإرغامه على السلوك الحسن.
6ـ على المرأة أن تجتنب المساءة مع زوجها، لأن ذلك يخلق جواً من البغضاء والكراهية بينهما، فيؤدي ذلك إلى اضطراب الطفل وشعوره بالمخاوف وخلق عقد نفسية عنده، وقد حث الإسلام المرأة على إرضاء زوجها وحرّم عليها إتيان ما يكره، فقد أثر عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (أيما امرأة آذت زوجها بلسانها، لم يقبل الله منها صرفاً ولا عدلاً، ولا حسنة من عملها حتى تُرضيه..).
وقال (صلّى الله عليه وآله): (أيما امرأة لم ترفق بزوجها، وحملته على ما لا يقدر عليه، وما لا يطيق منها لم تقبل منها حسنة، وتلقى الله، وهو عليها غضبان).
وقال (صلّى الله عليه وآله): (لا تؤدّي المرأة حق الله عز وجل حتى تؤدي حق زوجها).
وقال الإمام أبو جعفر (عليه السلام) (أيما امرأة قالت لزوجها: ما رأيت منك خيراً قط فقد حبط عملها). (مكارم الأخلاق: ج1، ص46-47)
إن واجب المرأة المسلمة إرضاء زوجها، ومسايرته، والاندماج معه واجتنابها عن كل ما يزعجه حتى تتمكن هي وإياه من القيام بتربية أطفالهم تربية صحيحة.
7ـ إذا شذّ بعض أبنائها، وسلك غير الجادة فواجبها إخبار أبيه ليقوم بتأديبه، وحمله على السلوك القويم، وليس لها إخفاء ذلك وحجبه عنه لأن الولد يتشجع على ارتكاب الرذيلة والمنكر، كما أنه ليس لها أن تمانع زوجها وتدفعه عن القيام بتأديب أولاده لأن ذلك يؤدي إلى تمردهم وفساد تربيتهم.
8ـ أن تبعد أطفالها عن الشوارع فإنها لا تخلو من المغريات، ودوافع السلوك المضاد للمجتمع، فقد أصبحت تعجّ بالمنحرفين والمصابين بأخلاقهم الذين هم مصدر لتلويث الأطفال، وجرهم إلى حمأة الرذائل والموبقات.
9ـ أن تمنعهم من الأسباب التي تؤدي إلى سقوط العفة والطهارة، وانهيار الأخلاق والآداب كقراءة الكتب، والروايات الخلاعية، ومراودة دور السينما الخليعة، ودور الرقص وغيرها من الأمور المثيرة التي توجب السقوط في حضيض الدعارة والمجون، وتقضي على تماسك الشخصية وانهيار تكاملها وتفاعلها مع المجتمع.
10ـ أن تحافظ على العفة وحسن السلوك، ولا تتبرّج تبرج الجاهلية الأولى، ولا تخلع حجابها، وتكون محافظة في سيرتها على الآداب الإسلامية حتى تكون قدوة حسنة لأبنائها على التزام العفة والنجابة، والابتعاد عما يثير الشهوات ويفسد الأخلاق.
إن العلاقة الزوجية التي تسود فيها الأمانة هي التي تنشئ العواطف الغالية في الرجل ليؤمن إيماناً صحيحاً بأن أبناءه وزوجته مقدّمون على نفسه ومصلحته.. أما إذا زالت الأمانة فلا يشعر الرجل بغيرة على زوجته، ولا يجد باعثاً نفسياً على تربية أولاده، ولا اهتماماً بمستقبلهم، ولا يحفل بأن يعيشوا في كنفه وفي ذرى عطفه، وهذا هو البلاء العظيم الذي تمنى به الإنسانية، فإن من آثاره فساد النشء حيث لا يعرفون لهم أباً عطوفاً يشفق عليهم، ويقدمهم على نفسه، وبذلك تموت العواطف التي بموتها تموت الإنسانية.
هذه بعض الأمور التي ينبغي للأم مراعاتها، وتطبيقها على واقع حياتها الزوجية حتى يتسنى لها إنشاء جيل صالح.
واجبات الأبناء
وأولى الإسلام رعاية الأبناء لآبائهم اهتماماً خاصاً، وأوجب عليهم طاعتهم المطلقة، وجعل عقوقهم من الكبائر التي توعّد عليها بالنار.
لقد أعلن كتاب الله العظيم في غير آية من آياته لزوم الإحسان للأبوين ووجوب طاعتهما، وقرن ذلك بعبادته، وطاعاته قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَ تَعْبُدُوا إِلاَ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً). (سورة الإسراء: 23-24)
على هذا النهج القويم الذي يمثل أصالة الإسلام وخلوده في تربيته وتعاليمه يجب على المسلم أن يعامل أبويه، ويقابلهما بكل ما يملك من طاقات الخدمة والإحسان وإن يسخّر نفسه للعمل بما يرضي عواطفهما، ويشيع في نفوسهما روح الرضا والقبول وليس له أن يفوه بكلمة سأم أو ضجر منهما فيما إذا بلغا سن الشيخوخة، وعجزا عن القيام بشؤونهما، فإنه تتأكد خدمتها، ورعايتهما، وعليه أن يخفض جناح الذل، ويدعو لهما ويقابلهما بكل ألوان التكريم والإكبار فإن ذلك من موجبات الغفران، وقد تواترت الأخبار عن النبي (صلّى الله عليه وآله) وأئمة الهدى (عليهم السلام) بلزوم البر والإحسان إليهما، وفيما يلي بعض تلك النصوص.
1ـ روى الإمام أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): (أن رجلاً أتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال له: يا رسول الله إني راغب في الجهاد نشيط؟ فقال له النبي (صلّى الله عليه وآله): فجاهد في سبيل الله، فإنك إن تقتل تكن حياً عند الله ترزق، وإن تمت فقد وقع أجرك على الله، وإن رجعت رجعت من الذنوب كما وُلدت. قال يا رسول الله: إن لي والدين كبيرين يزعمان أنهما يأنسان بي ويكرهان خروجي؟ فقال (صلّى الله عليه وآله): فقرّ مع والديك، فوالذي نفسي بيده لأنسهما بك يوماً وليلة خير من جهاد سنة..).
إن بر الولد بأبيه أكثر ثواباً، وأعظم أجراً من الجهاد الذي هو باب من أبواب الجنة.
2ـ روى زكريا بن إبراهيم قال: كنت نصرانياً، فأسلمت وحججت فدخلت على أبي عبد الله، فقلت له:
- إني كنت نصرانياً، وإني أسلمت.
- (أي شيء رأيت في الإسلام؟).
- قول الله عز وجل: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ).
فرفع الإمام (عليه السلام) يديه بالدعاء له بالهداية والتفويق، وسأله زكريا، فقال له:
إن أبي وأمي على النصرانية، وأمي مكفوفة البصر، فأكون معهم وآكل من آنيتهم.
فقال (عليه السلام): يأكلون لحم الخنزير.
- لا، ولا يمسونه.
- (لا بأس، فانظر أمك فبرها، فإذا ماتت فلا تكلها إلى غيرك، كن أنت الذي تقوم بشأنها..).
ولما قفل راجعاً إلى بلده أخذ في برّ والدته، والإحسان إليها، وتعاهد خدمتها، فاستغربت من كثرة عنايته بها فقالت له: يا بني، ما كنت تصنع هذا بي، وأنت على ديني، فما الذي أرى منك منذ هاجرت فدخلت في الحنيفية؟!
فقال: رجل من ولد نبينا أمرني بهذا.
- هذا الرجل نبي (صلّى الله عليه وآله).
- لا، ولكنه ابن نبي.
- إن هذه وصايا الأنبياء، إن دينك خير دين.
وطلبت منه أن يعرض عليها الإسلام، فأسلمت.
لقد بنى الإسلام على مكافأة المحسنين والبر بالأبوين بكل ما تحتمله هذه الكلمة من معنى.
3ـ ويؤكد الإسلام بصورة خاصة على خدمة الأم والبر بها أكثر من الأب لأن حقوقها على الولد أكثر من حقوق الأب، فقد روى الإمام أبو عبد الله الصادق (عليه السلام) أن رجلاً جاء إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال له:
- من أبر؟
- (أمك).
- ثم من؟
- (أمك).
- ثم من؟
- (أمك).
- ثم من؟
- (أباك). (أصول الكافي: ج2، ص161-162)
إن الولد مسؤول أمام الله عن رعاية أمه والبر بها، وتوفير ما تحتج إليه جزاءً لأتعابها القاسية، وعنائها الشاق الذي بذلته في تربيته... وفي الحديث أن رجلاً كان يحمل أمه فيطوف بها، فسأل النبي (صلّى الله عليه وآله): هل أدّيت حقها؟ فقال (صلّى الله عليه وآله): (لا، ولا بزفرة واحدة).
إن البر بالوالدين، ولزوم طاعتهما، والقيام بجميع ألوان الخدمة لهما كل ذلك من العناصر الأساسية في التربية الإسلامية الهادفة إلى تماسك المجتمع على أساس من المودة الصادقة والحب المتبادل.
شكرا
==================================
مشكوووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووو ووووو وووووووووووووووووووووووووووووووووره
__________________________________________________ __________
__________________________________________________ __________
__________________________________________________ __________
__________________________________________________ __________