إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

بلا أمـــــل جميلة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بلا أمـــــل جميلة

    عنوان الموضوع : بلا أمـــــل جميلة
    مقدم من طرف منتديات أميرات

    رفعت كفها تنادي النادل. اقترب مبتسما وهي تضع نقودا معدنية على الطاولة. شكرته على خدمته ومضت... كانت نظراتها منكسرة، وخطاها ثقيلة ثقل ما بين أضلاعها، والألم يعصر كيانها، دون أن تدري إن كانت تتألم لأنه خذلها من جديد، ولم يلتزم بموعده معها، أم أنها تتألم من شوقها لرؤيته، وسماع صوته، والعوم في بحر عينيه... أم لأسئلة لا تجد لها أجوبة، فإن كان لا يريد لقياها، لماذا يحدد مواعيد اللقاء أصلا؟ ولماذا يلتمس منها تخصيص وقت للقاء، و بعدها لا يحضر؟؟ لقد خذلها بدل المرة مرات، ولمحت كذبه المتكرر في عينيه قبل أن تدركه بعقلها... فهل أحبها حقا، أم أنه فقط يتسلى بـمشاعرها؟ لا، لا، لا تريد أن تفكر في هذا الاحتمال. كان مجرد التفكير في ذلك يمزق روحها، يقطع أحشاءها، وهي التي عشقته بعنف، وامتلأ وجودها وتألق بحبه، وتحررت من تفاهة كل الأشياء، ومن روتين ورتابة الزمن، فأصبحت تحيى حيوات في حياة واحدة، كأنها عادت إلى نقطة البداية من عمرها، عادت إلى أولها، بعد أن دبت فيها رعشة الحياة، الحياة الأولى، أما ما فات فما يقاس، ولا يحسب، ولا يعد من الحياة...
    التقيا بين جدران الجامعة، كان شابا مكافحا، كله نشاط وحيوية، والابتسامة والملح لا تفارقان فاه رغم أثقال سنين لا يعيها ولا يترجمها إلا من يتقن قراءة العيون. عشقته في الوقت الذي خطط لإكمال دراسته في مدينة أخرى. عشقته فأبصرت في نفسها ورأت ما لم تر من قبل، واكتشفت طاقات في ذاتها ما حسبتها فيها، ولا ظنت أنها قادرة على فعلها، حتى الفضاء، والموجودات، والمدينة بأكملها صارت تنظر إليها كأنها تراها لأول مرة... فكيف لم يعد يشتاق إليها كما تشتاق هي إليه ؟ ألم يعد يشتاق لمشاكساتهما بالكلمات، والأفكار، وحتى الأيادي... هل اكتشف لذة أبهج من حضورهما معا؟ هل وجد جمالا يفوق جمال اختلاء روحيهما ولو كانا وسط جموع من البشر؟
    شعرت بقشعريرة تسري في كامل جسدها لما تخيلت نفسها تطالع ملامح وجهه، فبدأت تفتش بعينيها بين كل المشاة في الشارع، عله يبدو لها ولو من بعيد، فمطالعة وجهه تعادل جمالات الوجود كلها، بل إن كل الجمالات لا تساوي إلا ظلالا لجماله وأصداء لصوته الذي ما فتئ يرن في أذنيها...
    لفت بعينيها ذات اليمين وذات الشمال لما وصلت قدماها إلى الشارع الذي يوصل إلى مقر عمله، مشت الهوينى، وبؤبؤا عينيها يلفان دورات سريعة علهما يلمحانه خارجا أو داخلا إلى مكتبه، وقامت بمسح سريع على كل المقاهي المجاورة من دون جدوى... ما كانت لتكلمه لو رأته هنا أو هناك، هي ترغب في أن تطفئ نار الشوق التي تحرق قلبها، وتذيبها كلما فكرت في أنه لا يشتاق إليها... يكفيها أن تبصره، أن تسعد برؤيته ولو لم يرها.
    إنها تستغرب كيف كان قبل سنتين يتلهف لقياها لما كانت مئات الكيلومترات تفصل بينهما، وكان يعوض البون برسائل يكتبها كل أسبوع مرة، حتى صارت تعشق صوت محرك دراجة ساعي البريد النارية عشقها لمحبوبها... والآن وقد لفتهما مدينة واحدة، ويستنشقان الهواء نفسه، ولا تفصلهما إلا مئات الأمتار، عز عليها اللقاء، وانقطعت الرسائل والكلمات... لم تعد تفهم من تفاصيله شيئا، اختلطت عليها الأوراق، كان حاضرا لما كان غائبا، وغاب لما حضر...
    دندنت أغنية لفيروز وهي تحبس عبرة تكاد تسقط من عينيها:
    أنا لحبيبي و حبيبي إلي

    يا عصفورة بيضاء لا بقى تسألي

    حبيبي ندهلي قلي الشتي راح

    و ندهلي حبيبي جيت بلا سؤال

    من نومي سرقني من راحة البال
    ...
    وتنهدت وهي تقارن بين نومها الذي سرق قبلا من وجدها، والآن من همها، ويأسها، وشوقها... كانت تسهر الليالي تتلذذ باسترجاع كل كلمة، وكل همسة، وبكتابة ردود على رسائله، وبمعاودة قراءتها. والآن صارت تسهر ألما، وحرقة، ومعاناة من إهماله، وغيابه...
    يا لقسوته، يا لجفائه، هل فعلا هذا هو المحبوب الذي جلس قربها قبل سنة في المقهى نفسه، ولم يفلت أصابعها من بين كفيه وهما يتكلمان في كل شيء ولا شيء...؟ أخرجت يومها من حقيبتها شريطا اشترته قبل لقائهما، وطلبت من النادل أن يضعه على المسجلة بدل تلك الموسيقى الشعبية الصاخبة، كان شريطا لفيروز، أحبت يومها كل أغانيه إلا واحدة كانت بعنوان "معرفتي فيك"، وعشقت منه أكثر ما عشقت أغنية "لبيروت" التي كانت هادئة ورومانسية كأن الأخوين الرحباني أبدعاها من أجل تلك اللحظات التي تجمعهما، لم تكن يومها تنصت لكلمات الأغنية؛ إذ كانت كلها بسمعها وروحها تنصت له وحده، حتى قاطعها قائلا: إن كانت فيروز تغني لبيروت، فهذا المقطع أغنيه لك، لك وحدك... ونظر إلى عينيها نظرة حنونة دافئة مازالت تتذكرها... وما زالت تتذكر أكثر ذلك المقطع إذ يقول:

    أزهرت جراح شعبي
    أزهرت .. دمعة الأمهات ..
    أنتِ لي
    أنتِ لي
    آه عانقيني
    أنت لي
    ...
    فما الذي تغير خلال هذه المدة؟ كيف تغيرت علاقتهما؟ كان مجنونا بها، أو على الأقل هكذا بدا لها، وهكذا أحست، بل كان مذهولا عن كل ما سواها، حتى صارت تشعر أنه لم يعد شيئا إلاّها، فكيف تضيع كل هذه المشاعر، وهي التي ظنت أنها صارت بستانه يطرب لصوتها، ويستمتع بمرآها، وبشم ريحها؟
    كانت تؤمن أنها تفنى فيه ويفنى فيها رغم كل المسافات التي تبعد بينهما، وكانت ساعة واحدة كل بضعة شهور على شاطئ البحر، أو على المقهى، أو في أي مكان، تفوق كل متع الدنيا، وتنسي كل لحظات الغياب، وتشعر بالامتلاء. فهل تكون عودته للعمل في مدينتهما مدعاة هذا الفتور؟ هو ليس فتورا، إنه إهمال، ولامبالاة، هي القسوة عينها، مع نسمة ترفع وعلياء، حتى صارت الروح التي أحيت حياتها، هي التي تخنق روحها، والعشق الذي أشعرها بالنشوة وسما بها حتى ما عادت تشعر بالخلق، هو نفسه الذي يشعرها اليوم بالمرارة، ويحسسها أنها محط سخرية كل ذلك الخلق، وصار قلبه الذي كان وطنا تأوي إليه، وكانت نفسها تصبو منه إلى السكون والخلود، نفسه القلب الجارح الذي نفاها بعيدا كأنه ينفذ وصية جون بول سارتر إذ يقول: "الآخر هو الجحيم".
    فكيف صارت جنتها جحيما؟ وهل كانت هنالك جنة أصلا أم فقط كان يتهيأ لها؟ ألا يمكن أن يكون رجلا يحترف عشق النساء؟ ألا يمكن أن تكون رقما من بين أرقام...؟ تكره أن تفكر في هذا الاحتمال؛ إذ تعز عليها نفسها، وروحها، وقد وهبت أقدس مشاعرها وأعنفها لمن لا يستحق... وبنت له قصورا من الأحلام ما أمكن لامرأة أن تبنيها له لا حلما ولا حقيقة... سمعت صوت فرامل قوية ، فارتعبت، وتسمرت في مكانها، وقد وجدت نفسها وسط شارع طويل، وعجلات سيارة أجرة تكاد تدهس قدميها. لمحت السائق يرفع يديه عاليا، ويصرخ بكلام لم تسمع منه حرفا... انتبهت إلى أنها شلت حركة السير، فسارت بضع خطوات حتى وصلت الرصيف، وشعرت بسخونة وجنتيها، رفعت كفيها تتلمسهما فاكتشفت ماء غزيرا لم تدر متى تساقط من عينيها... هل يستحق منها هذه العبرات حقا؟ وكيف تبكي على من صبرت على جفائه شهورا طوالا، وخلقت الأعذار لزلاته مرات كثيرة، "كفى، كفى، كفى"، هكذا صرخت في داخلها بكل قواها، حتى حسبت الناس في الشارع يسمعونها، "كفى، كفى، كفى... كفى ذلا، كفى استهزاء، كفى انتظارا للسراب". لكنها تذكرت أنها كلما حاولت أن تبتعد بروحها وتدفن قصتهما رغم عيشها، كان يطلب منها التفكير بدل المرة ألفا، فتلمح في عينيه الجد، والتوسل، والحب الذي تفتقده، فتمنح لهما بدل الفرصة ثلاثا، لكن سرعان ما تلفها قسوته وجفاؤه بعد مدة يسيرة، لا... كفى، كفى، كفى، هذه المرة كفى، وكفى، وكفى بحق... كفى قلبا للأدوار، كيف يصير الرجل متمنعا ، معتصما، حاجبا نفسه، وتصير، هي الأنثى، المنتظرة، الساعية، الدانية... فمتى تخلقت المرأة بأخلاق الرجل فُقدت الرجولة والأنوثة معا، ولا أنوثة أصلا من دون رجولة...
    إن كل ما يؤلمها هو غياب الرجل الذي لم يشعرها بأنوثتها سواه ... فهل حقا توحدت روحاهما، وفنيت الواحدة في الأخرى، وقد كانت تشعر بذلك في كل لقاءاتهما أيام الصفاء؟... لقد كانت تشعر بذلك حقا، وتحس بالامتلاء والرضا، وفي كل مرة تلفها هذه المشاعر كانت تسترجع قول ابن الرومي:
    يا لك من نفس ليس يشفي غليلها سوى أن يرى الروحين يمتزجان
    فهل حقا كان هنالك توحد، أم أنه شعور من طرف واحد؟ وكيف يكون التوحد والفناء ولم تره منذ شهور، وما يفصل بينهما شعرة؟ فلا يطفئ نار العشق، ولا يسكن الغليل والشوق إلا امتزاج الأرواح... فأين روحه؟ بل أين روحها من قلبه، ومن روحه؟ إن لم تكن روحه مرآة لروحها، فلا يمكن أن يتمرأيا، ولن يتمرأيا دون أن يتجلى أحدهما في صفات الآخر...
    محال أن يكون لاعبا لعبة التشويق، ومحال أن يكونا قد استهلكا بعضهما البعض وملا، فهما لم ينكشفا بعد تمام الانكشاف، فهل يكون أصلا غير محب ولا عاشق... كفى، كفى، كفى، كررتها من جديد، وكلها إصـرار على وضع حــد لمعاناة تخنقــها وحدها، وكلها عزم على إنقاذ ما تبقى من كرامتها، وكبريائها، وعزتها، على الأقل أمام ذاتها، وكما اجتمعا لمعان سيفترقان لأخرى...
    آه من ذلك المقطع الفيروزي الذي كرهت طوال السنة الماضية، كانت تحس أنه نشاز في شريط يضم أغان رومانسية جميلة تشعرها أن فيروز غنتها لهما وحدهما، كأنها أبدعتها على مقاسهما... كانت كلما أنصتت للشريط، توقف المسجلة عند هذا المقطع، كأنها ترهبه، لقد كانت تخشاه... وهاهي ذي اليوم تدندنه بثقة، وتحد، وعنف:
    حبك لإلي بلّش مثل الشفقة
    كان بدي حنان
    ماكنت سألانة
    وهالآن بهالحلقة
    محتاجة أنساك
    بس اليوم
    ما بعرف كيف بقلك
    لآخر مرة بقل لك
    حبيبي
    مش أنت حبيبي...
    وجدت نفسها تفتح باب المنزل، وضوء الشمس يغيب في الأفق، التفتت خلفها تستغرب كيف قطعت كل تلك المسافة الطويلة على قدميها، واستغربت أكثر أنها لا تذكر من تفاصيل الطرقات والشوارع التي قطعت شيئا، لا تعلم حتى أي طريق سلكت...
    قصدت غرفتها، أغلقت بابها، ونافذتها، وأسدلت الستائر، واستلقت على سريرها دون أن تنزع حذاءها، أخذت صورته من بين صفحات رواية تحت مخدتها، ولم تسمح لها ظلمة الغرفة أن تتبين ملامحه، كأنها تشاركها عجزها في فهم غموضه، وكشف أغواره... ضغطت على زر المسجلة، وأغمضت عينيها، كانت فيروز تغني:

    أهواك و لي قلب بغرامك يلتهب

    تدنيه فيقترب تقصيه فيغترب

    في الظلمة يكتئب و يهدهده التعب

    فيذوب و ينسكب كالدمع من المقل

    في السهرة أنتظر و يطول بي السهر

    فيسائلني القمر يا حلوة ما الخبر

    فأجيبه و القلب قد تيمه الحب

    يا بدر أنا السبب أحببته بلا أمل...
    فاطمة القطيب 02 شتنبر 2017

    >>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
    ==================================

    أعود إليكن حبيباتي بعد انقطاع اضطراري، بهذا النص الذي أنتظر ملاحظاتكن وانتقاداتكن حوله.
    محبتكم على الدوام: نورس المغرب.

    __________________________________________________ __________


    __________________________________________________ __________


    __________________________________________________ __________


    __________________________________________________ __________





يعمل...
X