إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

طرق الجنة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • طرق الجنة

    عنوان الموضوع : طرق الجنة
    مقدم من طرف منتديات أميرات

    طرق الجنة
    ـ
    عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة ، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم الرحمة وحفت بهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ، ومن أبطأ به عمله ، لم يسرع به نسبه " رواه مسلم واللفظ له (1).
    دروس وعبر من كلام سيد البشر
    ـ
    العقائدية : ـ
    أ ـ "كربة من كرب يوم القيامة . . " من المسلمات أن كرب يوم القيامة أشد وأخطر بكثير من كرب الدنيا . . ولقد تضافرت الآيات القرآنية الكريمة التي تتحدث عنها لتصور لنا ذلك الهول الكبير ؛ الذي هو فوق أي تصور تشيب منه الولدان ويذهل المراضع ، وتسقط الحوامل أجنتها من الرعب والفزع .
    قال الحسن : تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام ، وتضع الحامل ما في بطنها بغير تمام .
    إن أهوال يوم القيامة التي ورد ذكر بعضها في الآيات الوارد ذكرها تذهل العقول ، وتذهب التمييز ، قال تعالى : { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم . يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد } [ الحج :1، 2].
    { إذا زلزلت الأرض زلزالها . وأخرجت الأرض أثقالها . وقال الإنسان ما لها . يومئذ تحدث أخبارها . بأن ربك أوحى لها . يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم } [ الزلزلة : 1 ـ 6 ] .
    { وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة . فيومئذ وقعت الواقعة } [الحاقة : 14 ـ 15 ] .
    { إذا رجت الأرض رجا . وبست الجبال بسا . فكانت هباء منبثا } [ الواقعة : 4 ـ 6 ] .

    وهي من أساسيات العقيدة الإسلامية منكرها جاحد قطعا بهذا الرصيد الكبير من الآيات القرآنية .
    ولقد صورت لنا بعض الأحاديث الصحيحة جانبا هاما من كرب يوم القيامة كحديث عائشة ـ رضى الله عنها ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يحشر الناس حفاة عراة غرلا " قالت : فقلت : يا رسول الله ، الرجال والنساء ينظر بعضهم بعضا ؟ ! فقال : " الأمر أشد من أن يهمهم ذلك " (2) . وكحديث أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعا ، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم " (3) . قال ابن مسعود : الأرض كلها يوم القيامة نار ، والجنة من ورائها ترى أكوابها وكواعبها ، فيعرق الرجل حتى يرشح عرقه في الأرض قد قامه ، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه وما مسه الحساب ، قال : فمم ذلك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : مما يرى الناس ما يصنع بهم .
    ب ـ " . . والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه . . " معناه أن معونة الله لعباده المتمثلة في هدايته لهم وتوفيقه إياهم متوقفة على تعاونهم هم فيما بينهم ، وسعيهم في قضاء حوائج بعضهم .
    ومن ثم فشقاوة الإنسان وسعادته ، وهديه وضلاله لا يفرضان عليه فرضا ، وينزلان به قهرا ، بل لإرادته دخل ولاختياره جانب هام في تحديد مصيره : { فألهمها فجورها وتقواها . قد أفلح من زكاها . وقد خاب من دساها } [ الشمس : 8 ـ 10 ] .
    نعم الهداية لا توهب حتى نحبي بها من نشاء { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } [ القصص : 56] ، كما أن إنبات الأرض وإخراجه للزرع والثمار لا يتوقف على الزرع والغرس فحسب ، بل ويعود أيضا إلى نوعية التربة وصلاحيتها للغرس ، ولكن هذا يجب ألا يعجز الزراع ويثبط جهودهم ، كما أن القلوب القاسية والآذان الصماء والأعين العمياء ، لا تخرس ألسنة العلماء وتقعس الدعاة عن القيام برسالة الدعوة في سبيل الله ، ولهم في نوح عليه السلام الأسوة الحسنة كما حكى عنه القرآن الكريم : { قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا . فلم يزدهم دعائي إلا فرارا . وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا . ثم إني دعوتهم جهارا . ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا } [ نوح :5 ـ 9 ]
    ونخلص إلى أن تذرع المتهاون في أركان الإسلام بعدم الهداية عين الحماقة والجهل ؛ لأن أسبابها مبينة وسبلها مرسومة معلومة فمن رام الهداية فليسع في معونة أخيه !
    ج ـ ورد في الحديث اسمان من أسماء الساعة العديدة : القيامة والآخرة .
    وسميت بالقيامة ؛ لقيام الناس أولهم وآخرهم لرب العالمين : { يوم يقوم الناس لرب العالمين } [ المطففين :6] . وبالقارعة ؛ لأنها تقرع القلوب والأسماع بأهوالها ، والحاقة ؛ لأنها ثابتة الوقوع ، وبالخافضة والرافعة ؛ لأنها تخفض أقواما بأعمالهم الرزية وترفع آخرين بأعمالهم الطيبة .
    والطامة سميت بذلك ؛ لأنه لا يمكن ردها ، وبالصاخة ؛ لأنها تصخ الآذان ، والزلزلة بتزلزل الأرض ، كما يطلق عليها : اليوم الموعود ؛ لأن الله وعد فيه أقواما بالجنة ، وأوعد آخرين بالنار ، ويوم العرض ؛ لعرض الناس على ربهم حيث تعرض أعمالهم إلى آخر ذلك من الأسماء التي سميت بها يوم القيامة في كتاب الله تعالى .
    د ـ " من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة " .
    في هذا التعبير النبوي الدقيق نستشف بشارة تثلج صدور الساعين إلى التيسير على الناس في الدنيا وهي حسن الختام والموت على الإسلام ، وذي غاية كل مسلم ؛ لأن الكافر لا يرحم في الدار الآخرة ، ومن رحمته تعالى تفريجه للكروب وتنفيسه على النفوس في ساعة لا ينفع فيها مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
    هـ ـ " . . . وذكرهم الله فيمن عنده . . " .
    ذكر الله لهم : ثناؤه عليهم في الملأ الأعلى بين ملائكته المقربين ، ومباهاته بهم وتنويهه بذكرهم ، والعندية المرادة هنا ليست هي العندية المكانية تعالى الله عنها علوا كبيرا ، لتنزهه عن المكان والزمان ، وهذا من مقتضيات عدم المماثلة التي هي صفة من الصفات الواجبة لله تعالى : قال ابن عاشر في مقدمة منظمته الفقهية :
    يجب لله الوجود والقدم 00 كذا البقاء والغنى المطلق عم
    وخلقه لخلقه بلا مثال 00 ووحدة الذات ووصف والفعال
    أي لا يماثله تعالى شئ منها مطلقا ، لا في الذات ولا في الصفات ، ولا في الأفعال قال تعالى : { ليس كمثله شئ وهو السميع البصير } [ الشورى :11] ، فأول هذه الآية تنزيه وآخرها إثبات ، فصدرها يرد على المجسمة وأضرابهم ، وعجزها يرد على المعطلة النافين لجميع الصفات (4) ، وأوجه المماثلة كثيرة : ( بأن يكون جرما أي تأخذ ذاته العلية قدرا من الفراغ أو يكون عرضا يقوم بالجرم ، أو يكون في جهة للجرم أوله هو جهة ، أو يتقيد بزمان أو مكان ، أو تتصف ذاته العلية بالحوادث ، أو يتصف بالصغر أو الكبر ، أو يتصف بالأغراض في الأفعال أو الأحكام ) (5) . وإنما المراد بالعندية : التشريف فحسب.
    و ـ " نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة " . " يسر الله عليه في الدنيا والآخرة" . . . " ستره الله في الدنيا والآخرة " . الاعتماد على الله في تفريج الكروب وستر العيوب ، وتيسير الأمور من صميم العقيدة الإسلامية : { الذي خلقني فهو يهدين . والذي هو يطعمني ويسقين . وإذا مرضت فهو يشفين . والذي يميتني ثم يحيين . والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } [ الشعراء :78 ـ 82] .
    فمن كانت في عقيدته ريب في ذلك أو التجأ إلى من سوى الله أو ما سواه سواء كان نبيا مرسلا ، أو ملكا مقربا ، أو شجرا أو مدرا وحجرا بالعبادة فقد أشرك بالله واتخذ معه ندا لا يملك له ضرا ولا نفعا ، قال تعالى : { يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد } [ الحج : 12] .
    التصوف : ـ
    1ـ السعي في قضاء حوائج المسلمين ومعاونتهم في شدائدهم ، والعمل على تيسير أمورهم من أسباب قبول الدعاء ، روى الإمام أحمد : "من أراد أن تستجاب دعوته وتنشكف كربته فليفرج عن معسر ".
    2ـ إن المتقين يجدون دوما في الدعاء فرجة وتنفيسا ؛ لأنهم يتسامون به من حضيض الدنيا وينطلقون من بوابته إلى العالم الفسيح عالم الالتجاء إلى الله الذي لا يعجزه شئ ، قال تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا . ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه } [ الطلاق :2 ، 3 ] .
    وفي الحديث عن علي رضى الله عنه أن مكاتبا جاءه ، فقال : إني عجزت عن مكاتبتي فأعني فقال : ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان عليك مثل جبل ثبير دينا أداه الله عنك ، قل : " اللهم اكفني بحلالك عن حرامك ، واغنني بفضلك عمن سواك " (6) .
    وعن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد ، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له : أبو أمامة جالسا فيه ، فقال : " يا أبا أمامة ما لي أراك جالسا في المسجد في غير وقت صلاة ؟ " قال : هموم لزمتني وديون يا رسول الله ! قال : " أفلا أعلمك كلاما إذا قلته أذهب الله ـ عز وجل ـ همك ، وقضى عنك دينك ؟ فقال : بلى يا رسول الله . قال : " قل إذا أصبحت وإذا أمسيت : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك من البخل والجبن ، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال " قال : فقلت ذلك ؛ فأذهب الله ـ عز وجل ـ همي ، وقضى عني ديني (7) .
    وعن ابن مسعود رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك ، وابن عبدك ، وابن أمتك ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك : أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي ، إلا أذهب الله ـ عز وجل ـ همه ، وأبدله مكانه حزنه فرحا " قالوا : يا رسول الله ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات ؟ قال : "أجل ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن " (8).
    3ـ ينزل الله السكينة على حلق الذكر ، ومدارسة القرآن الكريم عن البراء بن عازب قال : كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو ، وجعل فرسه ينفر منها ، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له ، فقال : " تلك السكينة تنزل للقرآن " (9).
    وروى ابن المبارك عن يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر عن سعد بن مسعود ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في مجلس فرفع بصره إلى السماء ثم طأطأ بصره ثم رفعه ، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : "إن هؤلاء القوم كانوا يذكرون الله تعالى ـ يعني أهل مجلس أمامه ـ فنزلت عليهم السكينة تحملها الملائكة كالقبة فلما دنت منهم تكلم رجل منهم بباطل فرفعت عنهم " . وفي الصحيحين عن أبي سعيد : أن أسيد بن حضير بينما هو ليلة يقرأ في مربده إذا جالت فرسه فقرأ ، ثم جالت أخرى فقرأ ثم جالت أيضا ، قال أسيد : فخشيت أن تطأ يحيى ـ يعني ابنه ـ قال : فقمت إليها فإذا مثل إليها فإذا مثل الظلة فوق رأسي فيها مثل أمثال السرج عرجت في الجو حتى ما أراها ، قال : فغدا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فقال : "تلك الملائكة كانت تسمع لك ، ولو قرأت لأصبحت تراها الناس ما تستر منهم".
    4ـ ليس في الشريعة الإسلامية ما يحتكر لأناس دون الآخرين ، وليس في الأذكار طلسمات وأسرار لا يفك رموزها ، ولا يطلع عليها إلا طوائف من الطرائق المبتدعة ، وقال رجل لأبي أمامة : رأيت في المنام كأن الملائكة تصلي عليك كلما دخلت وكلما خرجت وكلما قمت وكلما جلست ، فقال أبو أمامة : وأنتم لو شئتم صلت عليكم الملائكة ، ثم قرأ { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا . وسبحوه بكرة وأصيلا . هو الذي يصلي عليكم وملائكته} [الأحزاب :41 ـ 43].
    وصدق الله إذ يقرر عدله في الجزاء { فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى } [ آل عمران :195] . { إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} [ الكهف :30] .
    الفقهية : ـ
    1ـ "ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة " التيسير على المعسر من جهة المال بوجوه عدة كإنظاره ، أو الحط عنه ، أو بإعطائه مالا على سبيل الهبة أو الصدقة وقد ورد الحث إلى هذه كلها :
    ـ أوجب الله تعالى إنظار المعسر إلى الميسرة ؛ لقوله تعالى : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون } [ البقرة :280] .
    وقد وردت الأحاديث من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك :
    فعن محمد بن كعب القرظي ؛ أن أبا قتادة كان له دين على رجل ، وكان يأتيه يتقاضاه فيختبئ منه ، فجاء ذات يوم فخرج صبي فسأله عنه ، فقال : نعم هو في البيت يأكل خزيرة ، فناداه ، فقال : يا فلان اخرج ، فقد أخبرت أنك ها هنا ، فخرج إليه فقال : ما يغيبك عني؟ فقال : إني معسر وليس عندي ، قال : آلله إنك معسر ؟ قال : نعم . فبكى أبو قتادة ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من نفس عن غريمه أو محى عنه كان في ظل العرش يوم القيامة " (10).
    وعن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتى الله بعبد من عبيده يوم القيامة قال : ماذا عملت لي في الدنيا ؟ فقال : ما عملت لك يا رب مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها ـ قالها ثلاث مرات ـ قال العبد عند آخرها : يا رب إنك كنت أعطيتني فضل مال ، وكنت رجلا أبايع الناس ، وكان من خلقي الجواز فكنت أيسر على المعسر وأنظر المعسر، قال : فيقول الله ـ عز وجل ـ : أنا أحق من ييسر ، ادخل الجنة " (11).
    وعن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد وهو يقول بيده هكذا وأومأ عبد الرحمن بيده إلى الأرض ـ : " من أنظر معسرا أو وضع عنه وقاه الله من فيح جهنم ، ألا إن عمل الجنة حزن (12) بربوة ـ ثلاثا ـ ألا أن عمل النار سهل بسهوة (13) ، والسعيد من وقى الفتن ، وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد ، ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيمانا " (14).
    ـ ومن باب التيسير على أهل الكرب والتفريج عنهم إهداء الهدايا لهم والتصدق عليهم ، وقد جاءت السنة بحشد هائل من الأحاديث النبوية التي تحث على التصدق فليعد إليها من شاء في مظانها .
    2ـ " وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله . . . . . والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه . . . . " .
    اختلف فقهاء الإسلام في الطاعات التي يقتصر عليها المعتكف في بيت من بيوت الله وذهبوا في ذلك إلى رأيين :
    الرأي الأول : مذهب ابن القاسم القائل : إن المعتكف يقتصر على الصلاة والذكر وقراءة القرآن لا غير ذلك من أعمال البر والقرب .
    الرأي الثاني : وقيل : جميع أعمال القرب والبر المختصة بالآخرة ، وهو مذهب ابن وهب ، فعلى هذا المذهب يشهد الجنائز ويعود المرضى ويدرس العلم .
    والذي أميل إليه هو مذهب ابن وهب ؛ لأنه ما دام الإمام مالك رضى الله عنه يجيز للمعتكف البيع والشراء كما نقل عنه ابن رشد الحفيد : ( وأجاز مالك له البيع والشراء وأن يلي عقد النكاح وخالفه غيره في ذلك ) (15) . فمن باب أولى خروجه لأعمال القرب المختلفة كقضائه لحوائج الناس والصلح بينهم وعيادة المريض منهم . . و . . و . .
    وشفيعي في هذا الميل ما رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي بهذا اللفظ ، والحاكم عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أنه كان معتكفا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فسلم عليه ثم جلس ، فقال له ابن عباس : يا فلان أراك مكتئبا حزينا ، قال : نعم يا ابن عم رسول الله . لفلان علي حق ولاء (16) ، وحرمة صاحب هذا القبر (17) ما أقدر عليه ، قال ابن عباس : أفلا أكلمه فيك ؟ فقال : إن أحببت ؟ قال : فانتعل ابن عباس ، ثم خرج من المسجد فقال له الرجل : أنسيت ما كنت فيه ؟ قال : لا ، ولكني سمعت صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم ، والعهد به قريب فدمعت عيناه وهو يقول : "من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيرا له من اعتكاف عشر سنين ، ومن اعتكف يوما ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق أبعد مما بين الخافقين " .
    وفي الصحيحين : أن صفية بنت حيى كانت تزور النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في المسجد فتحدثت عنده ساعة ، ثم قامت لترجع إلى منزلها ، وكان ذلك ليلا ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ليمشي معها حتى تبلغ دارها ، وكان منزلها في دار أسامة بن زيد في جانب المدينة ، فلما كان ببعض الطريق لقيه رجلان من الأنصار ، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا ـ وفي رواية : ـ تواريا ـ أي : حياء من النبي صلى الله عليه وسلم لكون أهله معه ، فقال لهما صلى الله عليه وسلم : " على رسلكما إنها صفية بنت حيى " ـ أي : لا تسرعا واعلما أنها صفية بنت حيى زوجتي ـ فقالا : سبحان الله يا رسول الله !
    فقال صلى الله عليه وسلم : " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا " أو قال : " شرا " (18).
    وقد فهم الحسن البصري هذا الفهم حينما بعث قوما من أصحابه في قضاء حاجة لرجل وقال لهم : مروا بثابت البناني فخذوه معكم ، فأتوا ثابتا فتعلل بالاعتكاف ، فرجعوا إلى الحسن وأخبروه الخبر ، فقال : قولوا له : يا أعمش أما تعلم أن مشيك في حاجة أخيك المسلم خير لك من حجة بعد حجة ، فرجعوا إلى ثابت فأخبروه ، فترك اعتكافه وذهب معهم .
    3ـ " وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه " .
    أولا : فضل القرآن : ـ
    ورد في فضل القرآن الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة وكذا في فضل تعلمه وتلاوته ، كما جاء الترهيب من عدم قراءته ونسيانه ، فعن عثمان بن عفان رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "خيركم من تعلم القرآن وعلمه " (19) . وجاء فيه أيضا عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول : الم حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف " (20).
    وعن أبي موسى الأشعري رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب ، وطعمها طيب ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو ، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب ، وطعمها مر ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر " (21).
    وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضى الله عنهما ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقال لصاحب القرآن : اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها " (22) . وعن عبد الله بن عمرو ـ رضى الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يوحى إليه . لا ينبغي لصاحب القرآن أن يجد مع من وجد ، ولا يجهل مع من جهل وفي جوفه كلام الله "(23) وفي الترهيب من نسيانه ورد عن أنس رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "عرضت على أجور أمتي حتى القذاة يخرجه الرجل من المسجد ، وعرضت على ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن ، أو آية أوتيها رجل ثم نسيها" (24).
    ثانيا : آداب التلاوة : ـ
    ـ الطهارة : تجب الطهارة الكبرى للقراءة ، وتستحب الصغرى هذا بالنسبة للتلاوة عن ظهر قلب ، وأما حمل المصحف فيحرم على من قد الطهارتين على حد سواء قال تعالى : { إنه لقرآن كريم . في كتاب مكنون . لا يمسه إلا المطهرون } [ الواقعة :77ـ79] وللحائض أن تقرآ القرآن الكريم بلا مس هذا إن لم ينقطع عنها الدم ، فإذا انقطع تأتي لها رفع المانع بالغسل ؛ ومن ثم تحرم عليها التلاوة إلى حين تغتسل .
    ـ استحضار عظمة الخالق ؛ لأنه يتلو كلام المولى ـ عز وجل .
    ـ الترتيل ، لقوله تعالى : { ورتل القرآن ترتيلا } [ الزمل :4]. قال ابن عباس رضى الله عنه : لأن اقرأ البقرة وآل عمران وأرتلهما وأتدبرهما أحب إلى من أن أقرأ القرآن كله هذرمة (25).
    ـ تحسين الصوت وتزينه عند تلاوته عن البراء بن عازب رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " زينوا القرآن بأصواتكم" (26).
    وعن ابن أبي مليكة قال : قال عبيد الله بن أبي يزيد ـ رضى الله عنهما ـ مر بنا أبو لبابة فاتبعناه حتى دخل بيته فدخلنا عليه ، فإذا رجل رث الهيئة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " قال : فقلت لابن أبي مليكة : يا أبا محمد : أرأيت إن لم يكن حسن الصوت ؟ قال : يحسنه ما استطاع (27).
    ـ وعلى التالي أن يتدبر فيما يتلو ، وليستشعر أنه المخاطب والمقصود ، قال الإمام ابن قدامة المقدسي في كتابه ( مختصر منهاج القاصدين ) : ( ينبغي لتالي القرآن العظيم أن ينظر كيف لطف الله تعالى بخلقه في إيصال معاني كلامه إلى أفهامهم ، وأن يعلم أن ما يقرأه ليس من كلام البشر ، وأن يستحضر عظمة المتكلم سبحانه ، ويتدبر كلامه ، فإن التدبر هو المقصود من القراءة وإن لم يحصل التدبر إلا بترداد الآية فليرددها ، فقد روى أبو ذر رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام ليلة بآية يرددها { إن تعذبهم فإنهم عبادك } [ المائدة:118] ، وقام تميم الداري بآية وهي قوله : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ الجاثية : 21] وكذلك قام بها الربيع بن خيثم ليلة .
    وينبغي للتالي أن يستوضح من كل آية ما يليق بها ، ويتفهم ذلك ، فإذا تلا قوله تعالى : { خلق السموات والأرض ] [ الأنعام :1] فليعلم عظمته ويتلمح قدرته في كل ما يراه ، وإذا تلا { أفرأيتم ما تمنون } [ الواقعة :58] فليتفكر في نطفة متشابهة الأجزاء كيف تنقسم إلى لحم وعظم وعرق وعصب ، وأشكال مختلفة من رأس ويد ورجل ، ثم إلى ما ظهر منها من الصفات الشريفة كالسمع والبصر والعقل ، وغير ذلك فليتأمل هذه العجائب ) (28).
    هذه بعض آداب التلاوة وقد أفاض في ذكرها الإمام القرطبي في الجزء الأول من تفسيره : ( لا يمسه القارئ إلا طاهرا ، وأن يقرأه وهو على طهارة ، وأن يستاك ، ويتخلل فيطيب فاه ، وأن يلبس كما يلبس للدخول على الأمير لأنه مناج ، وأن يستقبل القبلة لطهارته ، وأن يتمضمض كلما تنخع ، وإذا تثاءب يمسك عن القرآن ؛ لأنه إذا قرأ فهو مخاطب ربه ومناج، والتثاؤب من الشيطان ، وأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم عند ابتدائه للقراءة ويقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، وإذا أخذ في القراءة لم يقطعها ساعة فساعة بكلام الآدميين من غير ضرورة ، وأن يخلو بقراءته حتى لا يقطع عليه أحد بكلامه فيخلطه بجوابه ، وأن يقرأه على تؤده وترسل وترتيل ، وأن يستعمل ذهنه وفهمه حتى يعقل ما يخاطب به ، وأن يقف على آية الوعد فيرغب إلى الله تعالى ويسأله من فضله ، وأن يقف على آية الوعيد فيستجير بالله منه ، ومن حرمته أن يقف على أمثاله فيمتثلها ، ومن حرمته أن يلتمس غرائبه ، ومن حرمته أن يؤدي لكل حرف حقه من الأداء حتى يبرز الكلام باللفظ تماما ، فإن له بكل حرف عشر حسنات ، ومن حرمته إذا انتهت قراءته أن يصدق ربه ، ويشهد بالبلاغ لرسوله صلى الله عليه وسلم ويشهد على ذلك أنه حق ، فيقول : صدقت ربنا وبلغت رسلك ونحن على ذلك من الشاهدين ، اللهم اجعلنا من شهداء الحق القائمين بالقسط ، ثم يدعو بدعوات ، وإذا قرأه لا يلتقط الآي من كل سورة فيقرأ : ـ أي يقرأ على السور ـ وإذا وضع المصحف ألا يتركه منشورا، وألا يضع فوقه شيئا من الكتب حتى يكون أبدا عاليا ، وأن يضعه في حجره إذا قرأه ، أو على شئ بين يديه ، ولا يضعه بالأرض ، وألا يمحوه من اللوح بالبصاق ، بل يغسل بالماء ، ويتوقى النجاسات ؛ وكان السلف الصالح يستشفي بغسالته ، وألا يتخذ الصحيفة وقاية للكتاب ، وألا يخلي يوما من أيامه عن النظر في المصحف مرة ، وأن يعطي عينيه حظها منه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطوا أعينكم حظها من العبادة " ، قالوا : يا رسول الله ، وما حظها من العبادة ؟ قال : " النظر في المصحف والتفكر فيه والاعتبار عند عجائبه " ، وألا يتأوله عندما يعرض له شئ من أمر الدنيا ، أي : إذا جاءك أحد فلا تقل : { جئت على قدر يا موسى } [ طه : 40] أو { كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية } [ الحاقة :34] وألا يتلى منكوسا ، كفعل معلمي الصبيان ، وألا يقعر في قراءته ، وألا يقرأه بألحان الغناء كلحون أهل الفسق ، ولا بترجيع النصارى ، ولا نوح الرهبانية وأن يجلل تخطيطه إذا خطه ، وألا يجهر بعض على بعض في القراءة فيفسد عليه حتى يبغض إليه ما يسمع كهيئة المغالية ، وألا يماري أو يجادل فيه في القراءات ، وألا يقرأ في الأسواق ، ولا في مواطن اللغط واللغو ومجمع السفهاء ، ألا ترى أن الله تعالى ذكر عباد الرحمن ، وأثنى عليهم بأنهم إذا مروا باللغو مروا كراما هذا لمروره بنفسه فكيف إذا مر بالقرآن الكريم تلاوة بين ظهراني أهل اللغو ومجمع السفهاء ؟ ! وألا يتوسد المصحف ولا يعتمد عليه ، ولا يرمي به إلى صاحبه إذا أراد أن يناوله ، وألا يصغر المصحف ـ مصيحف كمسيجد ـ وألا يخلط فيه ما ليس منه ، وألا يحلى بالذهب ، ولا يكتب بالذهب ، فتخلط به زينة الدنيا . قال صلى الله عليه وسلم : "إذا زخرفت مساجدكم ، وحليت مصاحفكم فالدبار عليكم " : الدبار : الهلاك ، وألا يكتب على الأرض ، ولا على الحائط كما يفعل بهذه المساجد المحدثة .
    مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب في أرض،فقال لشاب من هذيل :"ما هذا ؟ " قال : من كتاب الله كتبه يهودي ، فقال صلى الله عليه وسلم : " لعن الله من فعل هذا لا تضعوا كتاب الله إلا موضعه " . ورأى عمر بن عبد العزيز ابنا له يكتب القرآن على حائط فضربه ، وأن يفتتحه كلما ختمه حتى لا يكون كهيئة المهجور كما كان صلى الله عليه وسلم إذا ختم يقرأ من أول القرآن قدر خمس آيات لئلا يكون في هيئة المهجور ، ويستحب له إذا ختم القرآن أن يجمع أهله ـ أي دعا ـ وألا يكتب التعاويذ منه ، ثم يدخل في الخلاء به إلا أن يكون في غلاف من أدم ، أي : جلد أو فضة أو غيره فيكون كأنه في صدرك ، وإذا كتبه وشربه سمى الله تعالى على كل نفس وعظم النية فيه ، فإن الله تعالى يعطيه على قدر نيته ، وعن أبي جعفر قال : من وجد في قلبه قساوة فليكتب يس في جام بزعفران ثم يشربه ) (29) اهـ .
    ثالثا : حكم القراءة جماعة : ـ
    الذي أثر في هيئة قراءته صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر أحيانا من يقرأ القرآن ليسمع قراءته كما كان ابن مسعود يقرأ عليه ، وقال : " إني أحب أن أسمعه من غير" وكان عمر يأمر من يقرأ عليه وعلى أصحابه وهم يستمعون فتارة يأمر أبا موسى ، وتارة يأمر عقبة بن عامر .
    وعليه فاجتماع القوم في قراءة سورة ما بصوت واحد أمر مخالف للسنة وأنكره أعلام الأمة ذكر ابن علان في شرحه لهذا الحديث هيئة المدارسة ما نصه : ( " ويتدارسونه بينهم" أي : يتوازعون دراسته ، والأولى فيها أن يقرأ الثاني ما قرأ الأول ، قيل : إنه هكذا كانت مدارسة النبي صلى الله عليه وسلم مع جبريل ) (30).
    وقد فصل الحكم فيها كل من أبي البركات أحمد الدرديري في شرحه الكبير لمصنف أبي الضياء خليل ، والعلامة شمس الدين الشيخ محمد عرفة الدسوقي في حاشيته على الشرح المذكور آنفا : حيث ذكرا في معرض الحديث عن سجود التلاوة : ( ككراهة قراءة جماعة يجتمعون فيقرؤون معا إن لم يؤد إلى تقطيع وإلا حرم ) .
    قوله : يجتمعون فيقرؤون معا : ـ ( إنما كرهت القراءة على هذا الوجه ؛ لأنه خلال العمل وللزوم تخليط بعضهم على بعض ، وعدم إصغاء بعضهم لبعض وهو مكروه ، وأما اجتماع جماعة يقرأ واحد ربع حزب مثلا ، وآخر ما يليه وهكذا ، فذكر بعضهم الكراهة في هذه الصورة ،ونقل النووي عن مالك جوازها قال: بن (31) وهو الصواب إذ لا وجه للكراهة)(32)
    وحكى ابن حجر في فتحه الإجماع على الهيئة الفردية في القراءة فقال : ( نقل الإجماع استحباب سماع القرآن من ذي الصوت الحسن ، وأخرج أبو داود من طريق ابن أبي مسجعة قال : كان عمر يقدم الشاب الحسن الصوت لحسن صوته بين يدي القوم ) (33).
    وليس للقائلين بالقراءة الجماعية دليل حيث يلجؤون إلى الأحاديث الواردة في الذكر ، أو إلى قول قائلهم : هذا ما درج عليه سلفنا منذ أزمنة بعيدة ولم ينكره علينا ناكر ، ويحتجون أيضا بالأوقاف التي أوقفها محبسوها على قراءة ـ الحزب ـ ولعمري إن هذه الحجة الواهية هي ملاذ أرباب البدع والمنكرات في أيامنا هذه ، وليس في الأمر جديد بل هذه قريش نفسها تحتج بها { بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون } [ الزخرف:22] .
    (ذكر حرب أنه رأى أهل دمشق ، وأهل حمص ، وأهل مكة ، وأهل البصرة ، يجتمعون على القرآن بعد صلاة الصبح ، ولكن أهل الشام يقرؤون القرآن كلهم جملة من سورة واحدة بأصوات عالية ، وأهل البصرة ، وأهل مكة يجتمعون فيقرأ أحدهم عشر آيات والناس ينصتون ، ثم يقرأ آخر عشر آيات حتى يفرغوا . قال حرب : وكل ذلك حسن جميل ، وقد أنكر مالك ذلك على أهل الشام ، قال زيد بن عبيد الله الدمشقي : قال لي مالك بن أنس : بلغني أنكم تجلسون حلقا تقرؤون ، فأخبرته بما كان يفعل أصحابنا ، فقال مالك : عندنا كان المهاجرون والأنصار ما نعرف هذا ) (34).
    وفوق كل هذا ، فالذين يجتمعون للقراءة لا يتدارسونه غالبا ولا يتفهمونه ، وأني لهم ذلك وقراءتهم في كثير من الأحيان هذرمة !
    رابعا : حكم الاجتماع على القراءة بعد صلاة الصبح : ـ
    روى حرب الكرماني بإسناده عن الأوزاعي أنه سئل عن الدراسة بعد صلاة الصبح فقال : أخبرني حسان بن عطية أن أول من أحدثها في مسجد دمشق هشام بن إسماعيل المخزومي في خلافة عبد الملك بن مروان فأخذ الناس بذلك .
    وقال أبو مصعب وإسحاق بن محمد القروي : سمعنا مالك بن أنس يقول : الاجتماع بكرة بعد صلاة الصبح لقراءة القرآن بدعة ، ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا العلماء بعدهم على هذا ، كانوا إذا صلوا يخلو كل بنفسه ، ويقرأ ويذكر الله تعالى ، ثم ينصرفون من غير أن يكلم بعضهم بعضا اشتغالا بذكر الله فهذه كلها محدثة .
    خامسا : حكم القراءة في الأماكن المختلفة : ـ
    " وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله " خص النبي صلى الله عليه وسلم ذكر المساجد هنا لا على سبيل التقييد ، لكنه خرج مخرج الغالب لشرفها وعلو قدرها ، والعبادة فيها أفضل من غيرها .
    ولا بأس أن ننقل هنا من محاضرة العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي ـ مفتي الديار المصرية سابقا ـ جانبا من حديثه عن الأماكن التي يتنزه القارئ فيها عن القراءة ، نقول : إذا صدرت تلك الكلمات القرآنية بواسطة الراديو دون خلل في القراءة ، ومع مراعاة أحكام التجويد ، ولو لم يقصد القارئ التعبد بتلاوتها ، وإسماعها للعظة والاعتبار والتدبر ؛ وفي محل غير ممتهن فلا شك في الجواز ، وفي أن كلا من القراءة والسماع عبادة ؛ أما إذا اختلت حروف تلك الكلمات ولم تصدر مستوفية لما ذكرناه ، أو قصد بقراءتها وإسماعها اللهو واللعب ، والعبث والتلهي مثلا ، أو كانت في محل ممتهن كالخمارات والقهاوي ، وأماكن الرقص ، ومواضع الملاهي ، وفي كل موطن لا يليق قراءة القرآن فيه ولا سماعه ، فلا شك في منع ذلك وعدم جوازه ، لأن ذلك استهزاء وإخلال بكلمات الله جل شأنه ) (35).
    سادسا : حكم القراءة على الأموات : ـ
    اختلف الفقهاء في حكم القراءة على الأموات ووصول ثوابها ـ إذا لم يخرج مخرج الدعاء ـ وسنعرض رأي كل فريق وأدلته التي اعتمد عليها ، وسيزهق الحق الباطل :
    أولا : أدلة القائلين بالجواز : ـ
    ( . . ز وقال الإمام أحمد وبعض المالكية ، وبعض الحنفية ، وبعض الشافعية : إن القراءة مشروعة على الأموات وينتفعون بها لعموم الحديث ، ولعمل الأمة الآن ) ، وهذا هو الظاهر الذي ينبغي الاعتماد عليه للأمور الآتية : ـ
    1ـ أن لفظ موتى في الحديث نص فيمن مات فعلا ، وتناوله للحي المحتضر مجاز ولا يأتي المجاز إلا بقرينة ولا قرينة هنا .
    2ـ أن من حكم القراءة التخفيف وهو كما يطلب للمحتضر يطلب للميت.
    3ـ القياس على القراءة الفاتحة في صلاة الجنازة الآتية ، وإلا كان تحكما .
    4ـ القياس على السلام المطلوب للموتى في زيارة القبور الآتية ، فإذا كان الميت يأنس بالسلام الذي هو من كلا البشر ، فكيف لا يأنس ويسر بكلام الرحمن جل شأنه ؟ !
    5ـ أن السكينة والرحمة ينزلان في محل قراءة القرآن والميت والمحتضر بل كل مخلوق في أشد الحاجة إلى رحمة الله تعالى (36).
    وقبل أن نناقش هذه الأدلة يتحتم علينا ـ من قبل الأمانة العلمية ـ أن نورد الأدلة التي يستند عليها أصحاب هذا الرأي من الفقهاء ، جاء في تعليق للدرديري ـ رحمه الله ـ أثناء شرحه للمكروهات في أحكام الجنائز ما نصه : ( لكن المتأخرون على أنه لا بأس بقراءة القرآن والذكر وجعل ثوابه للميت ويحصل له الأجر إن شاء الله وهو مذهب الصالحين من أهل الكشف)(37).
    وينحو المحشى نفسه ـ الدسوقي ـ هذا المنحى فيقول : ( تنبيه : قال في التوضيح في باب الحج :المذهب أن القراءة لا تصل للميت حكاه القرافي في قواعده،والشيخ ابن أبي حمزة ) اهـ .
    وفيها ثلاثة أقوال : تصل مطلقا ، لا تصل مطلقا ، والثالث : إن كانت عند القبر وصلت وإلا فلا .
    وفي آخر نوازل ابن رشد في السؤال عن قوله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [ النجم : 39] قال : وإن قرأ الرجل وأهدى ثواب قراءته للميت جاز ذلك وحصل للميت أجره . اهـ .
    وقال ابن هلال في نوازله : الذي أفتى به ابن رشد ، وذهب إليه غير واحد من أئمتنا الأندلسيين : أن الميت ينتفع بقراءة القرآن الكريم ويصل إليه نفعه ويحصل له أجره إذا وهب القارئ ثوابه له ، وبه جرى عمل المسلمين شرقا وغربا ، ووقفوا على ذلك أوقافا واستمر عليه الأمر منذ أزمنة سالفة ثم قال : ومن اللطائف أن عز الدين بن عبد السلام الشافعي رؤى في المنام بعد موته فقيل له : ما تقول فيما كنت تنكر من وصول ما يهدى من قراءة القرآن للموتى ؟ فقال : هيهات وجدت الأمر على خلاف ما كنت أظن . اهـ .
    مناقشتهم أدلتهم : ـ
    1ـ لفظ الميت الوارد في الحديث المشار إليه في الحديث السابق مجاز ؛ قرينته الحالية : الاحتضار والحشرجة ـ فصاحبها آيل إليه لا محالة ، كقوله تعالى : { إنك ميت وإنهم ميتون. ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } [ الزمر :30، 31]
    2ـ ينكرون أن المراد بالقراءة على الموتى هو : ـ المحتضر ـ ثم يستدلون على جواز طلب التخفيف على الميت بمشروعية التخفيف على المحتضر ؛ ويكون هذا بقراءة "يس".
    إذا فينقضون ما بنوه بأنفسهم من جهة ، ومن جهة أخرى يتأولون لفظ الموتى خلاف تفسير شراح الحديث وأنى لهم هذا التمحل !
    3ـ القياس على الفاتحة باطل من وجوه ؛ لأن القراءة في الصلاة ـ أي صلاة الجنازة ـ لم تسلم هي الأخرى من الخلاف ، وهي لصحة الصلاة مراعاة للحديث : "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " (38) . لا للميت نفسه فتدبر.
    4ـ والقياس على السلام باطل .
    ومن عادة أهل البدع والأهواء تأصيل أصول خاصة بهم لا يقرها ذ و عقل بله عن صاحب علم ؛ فمن ذلك قولهم :
    أ ـ ما جرى به العمل منذ أزمنة سالفة !
    ب ـ الرؤى المنامية ، كاستدلالهم هنا برؤية العز بن عبد السلام ـ رحمه الله .
    ج ـ مذهب الصالحين من أهل الكشف : يا غوثاه ؟ !
    ثانيا : القائلون بالكراهة : ـ
    أهل السلف أن القراءة على الميت ليست مشروعة ، وهذا هو ظاهر كلام مالك ، والشافعي وغيرهما ، ويذهب أصحاب هذا الرأي في تفسير الحديث النبوي الشريف المروي عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "اقرؤوا يس على موتاكم"(39)إلى أن المقصود من لفظ : "موتاكم" الذين حضرهم الموت ، وذلك ليستأنسوا بما جاء فيها منذكر الله ، وأحوال البعث والقيامة والجنة والنار ، وما اشتملت عليه ، والتحذير من فتنة الشيطان.
    والقراءة على الأموات ليست من السنة في شئ ، ولا عمل الصحابة الكرام وسلف هذه الأمة من الأعلام ، وإنما الذي أثر فعله هو الدعاء والاستغفار لهم قال تعالى مؤدبا الأبناء : {وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا } [ الإسراء :24] . وقال أيضا : { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } [ الحشر :10].
    وهذا رسولنا عليه الصلاة والسلام يعلمنا الدعاء للأموات عن طريق أم سلمة ـ رضى الله عنها حيث قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيرا ، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون " قالت : فلما مات أبو سلمة أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله إن سلمة قد مات قال : " قولي : اللهم اغفر لي وله ، واعقبني منه عقبى حسنة " قالت : فقلت فأعقبني الله من هو خير لي منه محمدا صلى الله عليه وسلم (40).
    وعن عثمان بن عفان رضى الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال : "استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل"(41).
    وعن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له"(42) .
    ويعلمنا صلى الله عليه وسلم ما نقوله عند زيارة القبور : فعن سليمان بن بريدة عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أتاني جبريل فقال : إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم " ، قالت : قلت : كيف أقول لهم يا رسول الله ؟ قال : "قولي : السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين ، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون " (43).
    وعن أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال : "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " (44).
    وعن سعد بن عبادة رضى الله عنه أنه قال : يا رسول الله ، إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل ؟ قال : "الماء" ، قال : فحفر بئرا وقال : هذه لأم سعد (45).
    هذه الأحاديث وغيرها تدل ـ بما لا يدع للشك مجالا ـ على أن قراءة القرآن على الأموات ليست من عمل السلف الذين هم أجدر بالاتباع من الخلف .
    ودلت أيضا على أن الدعاء بالألفاظ الواردة في القرآن والسنة هو العمل الذي لا خلاف بين رجال المذهب في وصول ثوابه إلى الميت ، بعكس القراءة التي لم تسلم من الخلاف ، قال أبو الضياء خليل بن إسحاق المالكي في مختصره في باب الجنائز : وكره حلق شعره ، وقلم ظفره وهو بدعة . . . . ـ إلى قوله ـ : . . . . وقراءة عند موته كتجمير الدار وبعده وعلى قبره.
    قوله : لأنه ليس من عمل السلف ، أي : فقد كان عملهم التصدق ، والدعاء لا القراءة.
    ونص المصنف في التوضيح في باب الحج على أن مذهب مالك كراهة القراءة على القبور ، ونقله ابن أبي جمرة في شرحه على مختصر البخاري قال : لأنا مكلفون بالتفكر فيما قيل لهم وماذا لقوا ومكلفون بالتدبر في القرآن فآل الأمر إلى اسقاط أحد العملين . اهـ . وهذا صريح في الكراهة مطلقا (46) . ولم يقف الأمر عند قراءة "يس" وحدها على الأموات في عصرنا الحاضر ، بل اقترنت القراءة ببدع كثيرة ؛ كاجتماعهم للقراءة بأصوات مرتفعة ومتفاوتة على سبيل القراءة الجماعية التي سبق حكمها آنفا .
    وقد تكون بأثمان وأجور يتعارفون عليها إن لم يشترطوها ، ولله در سفيان بن عيينة حين روى هذا الأثر فقال : بلغنا عن ابن عباس أنه قال : لو أن حملة القرآن أخذوه بحقه وما ينبغي لأحبهم الله ، ولكن طلبوا به الدنيا فأبغضهم الله وهانوا على الناس .
    وجاء في ( بلغة السالك لأقرب المسالك ) للشيخ أحمد الصاوي على شرح سيدي أحمد الدرديري في الصفحة الثانية وأربعين بعد المائة من الجزء الأول ما نصه : أما قراءة القرآن على الأبواب وفي الطرق قصدا لطلب الدنيا فحرام ، ولا يجوز الإعطاء لفاعل ذلك لما فه من الإعانة على المحرم ، لا سيما في مواضع الأقدار فكادت أن تكون كفرا ، والرضا بها من أولي الأمر ضلال مبين (47).
    سابعا : التداوي بالقرآن : ـ
    التداوي بالقرآن ، أو ما يسمى ـ بالرقى ـ جمع رقية ، أمر جائز بشروط ، وقد حكى الإجماع بالجواز ابن حجر في فتحه فقال : أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط : أن يكون بكلام الله تعالى ، أو بأسمائه أو بصفاته ، وباللسان العربي ، أو بما يعرف معناه من غيره ، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى . ولا يجوز الاسترقاء بغير القرآن ، أو بغير ما أثر عن انبي عليه الصلاة والسلام من الأدعية الصحيحة ، ولا تعارض بين هذا وبين الأثر الذي ورد في وصف أهل الجنة : " لا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون " وذلك لسببين اثنين :
    ـ لأن المسترقي بالقرآن الكريم مسترق بكلامه تعالى ، ومن ثم فلا يرجو رفع البأس وجلب الشفاء إلا من الله تعالى .
    ـ ثم إن الوصف الذي ورد ربما يختص بالذين لا يأمنون على أنفسهم إن فعلوا ذلك من الركون إلى الأسباب والاعتماد عليها ، أو هو وصف ـ ربما ـ لمن كمل إيمانهم وصدق توكلهم على ربهم (48).
    وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يسترقي بسور من القرآن الكريم ، فعن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهل نفث عليه بالمعوذات (49) . وعن أبي سعيد رضى الله عنه أن رهطا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم انطلقوا في سفرة سافروها حتى نزلوا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم .فلدغ سيد ذلك الحي فسعوا له بكل شئ لا ينفعه فقال بعضهم : لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عند بعضهم شئ ، فأتوهم فقالوا : إن سيدنا لدغ فسعينا له بكل شئ فلم ينفعه فهل عند أحد منكم شئ ؟ فقال بعضهم : نعم إني والله لراق ، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلا ، فصالحوهم على قطيع من الغنم ، فانطلق فجعل يتفل عليه ويقرأ : { الحمد لله رب العالمين } [ سورة الفاتحة ] ، فكأنما نشط من عقال فانطلق يمشي ما به قلبة ، قال : فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه ، فقال بعضهم : اقسموا ، فقال الذي رقى : لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذي كان فننظر ما يأمرنا ، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له فقال : "وما يدريك أنها رقية ؟ أصبتم اقسموا واضربوا لي معكم بسهم " (50).
    النفسية : ـ
    كرب الدنيا ومصائبها كثيرة ، وما من فترة تمر على الإنسان إلا وهي حبلى بالمكاره تتعاقبه فيها سنن الحياة من موت ، وولادة ومرض ، وفقر وعنت وشقاء ، والتي لا يختلف في شدتها وحدة آلامها غنى على فقير ، أو مأمور على أمير ولا حتى بين المسلم وغيره ، قال تعالى : { ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما } [ النساء :104] .
    إذا هنا يكمن الاختلاف ، أي : في التلقي ، وفي الأثر الذي يحدثه الكرب ، والنتيجة التي يرقبها صاحبه ؛ فيؤدي الابتلاء بالمنافق أو من على شاكلته إلى الضجر والملل ، ثم إلى اليأس والقنوط . . وربما إلى الانتحار ! والواقع الغربي على ما أقول شهيد .
    ويرتفع الابتلاء نفسه بالمحتسبين الصابرين إلى أعلى عليين أرأيت أن المصيبة الواحدة تجعل أقواما في أسفل الدركات ، وآخرين في قمة الدرجات ؟ !
    إنها معجزة الإيمان وهل الإيمان الكامل إلا الصبر في أتم معانيه ، والصبر أنجع علاج نفساني على الإطلاق !
    ـ قال تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } [البقرة : 45] .
    وليصبر المبتلى عليه أن يعرف لماذا يصبر ، وما النتيجة المشجعة له والتي تستحق التضحيات ، وتستحق منه أيضا أن يوجه فكره ومشاعره وأحاسيسه تشوقا إليها وانتظارا لنيلها :
    1ـ عليه أن يدرك الفارق الكبير بين كربته وبين كرب يوم القيامة التي تفوق أي تحجيم وتعدو التصور البشري وله في هذا خير العزاء .
    2ـ وليعلم أن هناك من هو أشد منه حرجا وضيقا وأكثر ألما وشقاء .
    3ـ وليدرك أن الموت ليس هو الخلاص مما يقاسيه ويحاذره ، فلا يدعو على نفسه بالهلاك ، لأنه لا يدري مصيره مع أهوال الآخرة .
    4ـ وليطمئن إلى أنه لم يبتل بما ابتلى به إلا لأن ربه يحبه ليغفر زلته أو ليرفع درجته.
    فعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضى فله الرضا ومن سخط فله السخط"(51).
    5ـ وليجعل جزاء الصبر نصب عينيه قال تعالى في فضل الصابرين : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } [ الزمر : 10] ، { أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا } [القصص : 54] ، { وبشر الصابرين . الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} [ البقرة :155 ، 156] ، { أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما } [ الفرقان :75] .
    ولله در القائل :
    إن الأمور إذا اشتدت مسالكه 00 فالصبر يفتح منها كل ما ارتجا
    لا تيأسن وإن طالت مطالبه 00 إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
    أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاطته 00 ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
    الاجتماعية : ـ
    1ـ " من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا . . . . . والله في عون العبد . . . ."
    يقوم المجتمع الإسلامي على التكافل والتكامل تحقيقا لمبدأ { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } [ المائدة :2] حيث يعول غنيه فقيره ، ويرحم فيه كبيره صغيره ،ويوقر صغيره كبيره ، وجاهله عالمه ، والمصاب في المجتمع الإسلامي مواسى ، والمكروب مفرج عنه ، تلك هي مبادئ الإسلام التي حققها في مجتمع المدينة وترجمها إلى واقع معاش وحقيقة ملموسة ، ولم تكن أبدا محض خيال كأحلام أفلاطون في مدينته الفاضلة ، أو كارل ماركس في نظريته المتهافتة .
    بل ها هو الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه يتكفل بأعمال ربما ازدراها تكبرا بعض الساسة والقادة من ذلك ما رواه أحمد :
    أن خباب بن الأرت رضى الله عنه خرج في سرية وكان له عنز فكان صلى الله عليه وسلم يحلبها لعياله حتى قدم .
    وسار على نهجه ـ عليه السلام ـ خلفاؤه من بعده ، فهذا أبو بكر الصديق رضى الله عنه كان يحلب للحي أغنامهم وذلك قبل تولية الخلافة فلما قلدها قيل : الآن لا يحلبها فبلغه ذلك ، فقال : إني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه عن شئ كنت أفعله .
    ورأى طلحة عمر بن الخطاب زمن خلافته يدخل بالليل بيت امرأة فدخل إليها طلحة نهارا ، فإذا هي عجوز عمياء مقعدة ، فسألها : ما يصنع هذا الرجل عندك ؟
    قالت : ثكلتك أمك يا طلحة ، أعورات عمر تتبع ؟ !
    وقال أبو مجاهد : صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه فكان يخدمني ، وفي الصحيحين عن أنس قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر فمنا الصائم ومنا المفطر قال : فنزلنا منزلا في يوم حار أكثرنا ظلا صاحب الكساء ، ومنا من يتقي الشمس بيده ، قال : فسقط الصوام وقام المفطرون وضربوا الأبنية وسقوا الركاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ذهب المفطرون اليوم بالأجر" وعن أبي قلابة أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : يثنون على صاحب لهم خيرا ، قالوا : ما رأينا مثل فلان هذا قط ما كان في مسير إلا كان في قراءة ، ولا نزلنا في منزل إلا كان في صلاة ، قال : فمن كان يكفيه ضيعته (52) ؟ حتى ذكر ، ومن كان يعلف جمله أو دابته ؟ قالوا : نحن ، قال : "فكلكم خير منه" (53).
    2ـ الإسلام أحرص الشرائع على حفظ إنسانية الإنسان وشرفه وكرامته ، ولصيانة ذلك شرع أحكاما وحدودا سبق وأن أشرنا إلينا ، وتوعد الساعين إلى كشف عورات الناس بالعذاب الأليم في الأخرى ، قال الله تعالى : { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم } [ النور :19] .
    وعن أبي برذة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من اتبع عوراتهم تتبع الله عورته ، ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته " (54).
    فالمجتمع الإسلامي مجتمع نظيف طاهر ، مجتمع يسعى إلى إرساء الفضيلة وطمس معالم الرذيلة ، ويحافظ على شعور أفراده ، وأحاسيسهم ، فلا يتعرض لإحراجهم وإبداء مساوئهم وأغلاطهم بل يسدل عليها ستارا ، ويفرض عليها حصارا ما دامت الخطيئة بين المخطئ وربه لا تتعلق بحقوق الآخرين ، وما دام مرتكبها من الذين لم يشتهروا ويجاهروا بها وما دام الأمر لا يتعلق بشهادة أو رواية .
    إذا فالستر يكون على مستوري الحال الذين لم يعرفوا بشئ من المعاصي وزلوا زلة ما ، جاء في الحديث عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ : "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم " (55) . قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمر بالمعروف : اجتهد أن تستر العصاة ، فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام .
    وجاء ماعز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر عنده بالزنا أربع مرات فأمر برجمه وقال لهزال الذي أشار عليه بالاعتراف : " لو سترته بثوبك كان خيرا لك " (56).
    3ـ والستر لا يكون على أهل الفسق والفجور بل تجب محاربتهم ؛ لأن الإسلام دين الطهارة والعفة فلا يرضى بالفحش والخنا ، ودين الأمانة والصدق فلا يرضى بالكذب والخيانة ، ودين العدل فلا يرضى بالظلم والجور ، قال تعالى في وصف المؤمنين : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة } [ التوبة :71] .
    ووصف المنافقين قبل هذا فقال : { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف } [ التوبة :67] .
    إذا ( من كان مشتهرا بالمعاصي معلنا بها ولا يبالي بما ارتكب منها ولا بما قيل له ، هذا هو الفاجر المعلن ، وليس له غيبة كما نص على ذلك الحسن البصري وغيره ، ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره لتقام عليه الحدود ، وصرح بذلك بعض أصحابنا ، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" ) (57).
    4ـ من نافلة القول أن نشير ـ استنباطا من قوله صلى الله عليه وسلم : " ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه " ـ إلى أن النسب لا يرفع من الكسالى الخاملين على حساب العاملين ، ولا يقوم أبدا مقام العدل أو الأمانة أو الصدق في تقييم الرجال عند إسناد المهام لهم ، ولا يقدم الرجل إلى مراكز القيادة ومواضع الريادة نسبه ودمه وعرقه وقرابته لأولي الأمر ومصاهرته إياهم طبقا للقاعدة الأساسية في الإسلام : الناس سواسية كأسنان المشط { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [ الحجرات :13] ولذا تسقط يوم القيامة جميع الروابط العرقية { يوم يفر المرء من أخيه . وأمه وأبيه . وصاحبته وبنيه . لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } [ عبس :34 ـ37] ، { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } [ المؤمنون :101] وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه : { وأنذر عشيرتك الأقربين } [ الشعراء :214] : " يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا ، يا صفية عمة النبي صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئا ، يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا " (58).
    الثقافية : ـ
    " ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما " .
    لم يهتم نظام ولا شريعة بالعلم اهتمام الإسلام به ويكفي أن أول كلمة من السماء تطرق مسامع النبي صلى الله عليه وسلم هي كلمة : اقرأ ، ويكفي أيضا أن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي اقسم بالكتابة وأدواتها وسمى سورة بأكملها باسم "القلم" الأداة الأساسية للكتابة، قال تعالى : { ن والقلم وما يسطرون } [ القلم :1] وجاء في فضل العلماء الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة والآيات القرآنية المنزلة منها قوله تعالى : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28] ،وقوله : { وما يستوي الأعمى والبصير . ولا الظلمات ولا النور. ولا الظل ولا الحرور . وما يستوي الأحياء ولا الأموات } [ فاطر :19ـ 22] ، { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [ الزمر :9] ، كما ورد في فضل طلب العلم والسفر إليه والتماسه من أهله الكثير أيضا ؛ لقوله تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } [النحل : 43 ، الأنبياء :7 ] .
    ولما ورد أن الخارج لطلب العلم تحتفل به ملائكة الرحمن ، فعن زر بن حبيش قال : أتيت صفوان بن عسال المرادي رضى الله عنه قال ك ما جاء بك ؟ قلت : أنبط العلم (59) ، قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ك " ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضا بما يصنع " (60).
    وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرا أو يعلمه كان له كأجر حاج تاما حجته " (61).
    وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع " (62) . وعن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من غدا يريد العلم يتعلمه لله ، فتح الله له بابا إلى الجنة ، وفرشت له الملائكة أكتافها ، وصلت عليه ملائكة السموات وحيتان البحر ن وللعالم من الفضل على العابد كالقمر ليلة البدر على أصغر كوكب في السماء ن والعلماء ورثة الأنبياء ، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكنهم ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظه ، وموت العالم مصيبة لا تجبر وثلمة لا تسد ، وهو نجم طمس ، موت قبيلة أيسر من موت عالم " (63).
    ولخطورة العلم في بقاء المجتمعات بين الإسلام دور العلماء باعتبارهم المصابيح التي تشع على السالكين دروبهم . ففي المسند عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدي بها في ظلمات البر والبحر ، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة " ، وكما في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الناس ، ولكن يقبضه بقبض العلماء ، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " .
    والعلم الذي يرحل طالبه إليه علمان : علم ديني ، وعلم دنيوي وكلاهما موصل إلى الله تعالى إن أخلص صاحبه النية ، وعلى ذكر النية فإني أميل إلى تقسيم آخر يقوم عليها :
    1ـ علم غاية طالبة دينية .
    2ـ علم غاية طالبة دنيوية .
    فما كانت غاية صاحبه دينية فهو المعرف بالله تعالى الهادي إلى سبيله سواء كان فهما لآية منزلة من القرآن الكريم ، أو تدبرا وتفكرا في آية كونية لمعرفة دقائق صنع الله في كونه ، ومعجزاته في خلقه من كواكب ضخمة تسير وفق مسار ونظام دقيق وتوقيت لا تأخير فيه ولا تقديم { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون } [يس : 40] .
    وكذا التدبر في سنن الله التي قال عنها سبحانه : { فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا } [ فاطر :43] .. . . . . إلخ الآيات القرآنية العديدة التي يضيق المقام بذكرها ونحن في حل من استعراضها هنا كلها .
    أما العلم الذي يطلب به صاحبه أمرا دنيويا ويسعى به لتحقيق مأرب مادي فلا يناله من الفضل والجزاء شئ .
    وشفيعي في هذا التقسيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من تعلم علما مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة " (64).
    وعن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من طلب العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار" (65).
    التربوية : ـ
    1ـ "ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما . . . . . وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله " .
    لا بأس أن نورد ولو على سبيل الإشارة طرفا من آداب المعلم والمتعلم في الإسلام وجدوى هذه الآداب.
    إن التاريخ يحدثنا أن قانون التعليم عند اليونانيين بلغ في صرامته حد الإعدام لكل من يدخل بيت المدارس (66) دون استئذان ، فلا عجب إذا أن تلد اليونان سقراط ، وفيثاغورس ، وأفلاطون وأبيقور ، وغيرهم !
    وهذه الآداب الإسلامية في طلب العلم أو تعليمه تثمر رجالا عمالقة بل موسوعات علمية لا قبل للحضارات الأخرى أن تلد مثلهم ، هؤلاء الذي بنوا حضارة إسلامية مزدهرة عمرت قرونا طويلة ولا زال العالم المتقدم اليوم يعود إلى رصيدها .
    إذا من هذه الآداب :
    آداب المتعلم :
    أ ـ أن يتطهر الطهارة الخارجية والطهارة المعنوية بأن يطهر نفسه من الرذائل وأن يخلص في نيته ؛ لأنه في عبادة ، ولله در الإمام الشافعي حين قال :
    شكوت إلى وكيع سوء حفظي 00 فأرشدني إلى ترك المعاصي
    وأخبرني بأن العلم نور 00 ونور الله لا يعطى لعاصي
    ب ـ وينبغي له قطع العلائق الشاغلة ، فإن الفكرة متى توزعت قصرت عن إدراك الحقائق ، وقد كان السلف يؤثرون العلم على كل شئ ن فروى عن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ أنه لم يتزوج إلا بعد الأربعين ، وأهديت إلى أبي بكر بن الأنباري جارية ، فلما دخلت تفكر في استخراج مسألة ، فعزبت عنه ، فقال : أخرجوها إلى النخاس ، فقالت : هل لي من ذنب ؟ قال : لا ، إلا أن قلبي اشتغل بك ، وما قدر مثلك أن يمنعني علمي !
    ج ـ وعلى المتعلم أن يبقى زمامه إلى المعلم إلقاء المريض زمامه إلى الطبيب فيتواضع له ، ويبالغ في خدمته إن كان من أهل الصلاح .
    فقد كان ابن عباس يأخذ بركاب زيد بن ثابت ـ رضى الله عنهما ـ ويقول : (هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء ) (67) .
    وروى عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تعلمواالعلم ، وتعلموا للعلم السكينة والوقار ، وتواضعوا لمن تعلمون منه " (68).
    وقد أجمل الإمام علي رضى الله عنه آداب المتعلم فقال : إن من حق العالم عليك أن تسلم على القوم عامة ، وتخصه بالتحية وأن تجلس أمامه ، ولا تشير عنده بيدك ، ولا تغمز بعينك ، ولا تكثر عليه السؤال ، ولا تعينه في الجواب ، ولا تلح عليه إذا كسل ، ولا تراجعه إذا امتنع ، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض ، ولا تفشي له سرا ، ولا تغتابن عنده أحدا ، ولا تطلبن عثرته ، وإن زل قبلت معذرته ، ولا تقولن له : سمعت فلانا يقول كذا ، ولا أن فلانا يقول خلافك ، ولا تصفن عنده عالما ، ولا تعرضن من طول صحبته ، ولا ترفع نفسك عن خدمته ، وإذا عرضت له حاجة سبقت القوم إليها ، فإنما هو بمنزلة النخلة تنتظر متى يسقط عليها منها شئ.
    ( وحكى عن أبي الضياء خليل بن إسحاق صاحب المختصر أنه جاء يوما لمنزل بعض شيوخه فوجد كيف المنزل مفتوحا ولم يجد الشيخ هناك فسأل عنه فقيل له : إنه يشوشه أمر هذا الكنيف ، فذهب يطلب من يستأجره على تنقيته فقال خليل : أنا أولى بتنقيته فشمر ونزل ينقيه ، وجاء الشيخ فوجده على تلك الحال والناس قد حلقوا عليه ينظرون إليه تعجبا من فعله فقال الشيخ : من هذا ؟
    قالوا : خليل فاستعظم الشيخ ذلك وبالغ في الدعاء له على قريحة ونية صادقة فنال ببركة دعائه ووضع الله تعالى البركة في عمره ) (69).
    آداب المعلم : ـ
    أ ـ أن يخاطب طلابه بما يفهمون فيتخير الألفاظ الواضحة الخالية من التعقيد ، ويمثل للمعاني المجردة بأمثلة تقريبية ، فعن علي رضى الله عنه :" حدثوا الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله " (70).
    وانظر إلى حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إفهام صحابته ، فعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم منه (71).
    ب ـ أن يجنح إلى التيسير والتبشير ، فعن أنس رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا " (72).
    ج ـ وعليه التثبت مما يقول بالرجوع إلى الأمهات والمصادر لئلا يغرس في أذهان طلابه الأخطاء الفاحشة ، والأكاذيب الملفقة قال أنس : إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثا كثيرا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من تعمد على كذبا فليتبوأ مقعده من النار " (73).
    د ـ وعليه أن يختار الوقت المناسب الذي يكون فيه لعلمه أكبر الأثر حتى تتجمع الأذهان ، وتخلو القلوب من الشواغل ، وتنشرح النفوس ؛ لأنه ـ أي المعلم ـ كالفلاح الذي يترقب المواسم ليزرع بذور كل موسم في حينها ثم يتعهدها بالسقى بانتظام فإن هو أخل بهذه الشروط لا يجني زرعا ولا يقطف ثمرا .
    وكذلك الحال بالنسبة للمعلم ، عن أبي وائل قال : كان عبد الله ـ يعني ابن مسعود ـ يذكر الناس في كل خميس ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم ، قال : أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السامة علينا (74).
    هـ وعليه ألا يدخر جهدا في إخلاص نصحهم وإرشادهم إلى مفاتيح العلم ومواطن الصواب ، عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه ، ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه"(75).
    و ـ وأن يحسن إلى من يعلمهم ويلاطفهم وكأنهم أبناؤه ، فهذا أبو هارون العبدي قال : كنا نأتي أبا سعيد فيقول : مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الناس لكم تبع وإن رجالا يأتونكم من أقطار الأرضين يتفقهون في الدين ، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا " (76).
    هذه بعض آداب المعلم والمتعلم في الإسلام التي لم ترق إليها الدراسات التربوية الحديثة اليوم ، ولم تنجح فيما نجحت هي فيه من إيجاد الروابط المتينة والصلات الوثيقة بين المتعلمين ومشايخهم ، حين كان العلماء لا يرقبون جزاء ولا شكورا ، ولا يطمحون إلى الدرجات والمكافآت المادية بل كانوا يبرون بالمواثيق التي أخذت عليهم ، قال تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون } [ آل عمران : 187] . ويقدرون كذلك هذا التهديد والوعيد الوارد في قوله تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم . أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار}[البقرة :174 ،175]
    ولما رواه أبو هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار " (76).
    2ـ " وما اجتمع قوم . . . . يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم " .
    مما سبق رأينا أن شراح الحديث اختلفوا في معنى قوله صلى الله عليه وسلم : "ويتدارسونه " فمنهم من ذهب إلى أنها عطف مرادف لقوله : "يتلون" كالنبراوي.
    ومنهم من ذهب إلى أن المدرسة هي تفهم معانية ومعرفة أحكامه والاتعاظ بمواعظه ، ومنهم من فسر المدارسة باعتبارها الطريقة المثلى في تحفيظ كتاب الله وهي غير التلاوة ، وإلى هذين الرأيين الأخيرين أميل.
    فالمدارسة إذا هي أن يقرأ هذا شيئا ويعيد الآخر ما قرأه صاحبه وهي نفسها التي كان يدارس بها جبريل عليه السلام سيدنا محمدا عليه الصلاة والسلام . عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان جبريل ـ عليه السلام ـ يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ، وفي رواية : فيدارسه القرآن فإذا لقيه جبريل ـ عليه السلام ـ كان أجود بالخير من الريح المرسلة (78).
    قال صاحب (غاية المأمول شرح التاج الجامع للأصول ) في شرحه للمدارسة : يقرأ جبريل أولا والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ، ثم يسكت جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ثانيا هذه الطريقة في التلقين تسمى اليوم عندنا بالمتابعة وهي أضمن الطرق وأحرصها على كتاب الله وصيانته من التحريف والتغيير؛ وذلك لأن في القرآن الكريم ألفاظا لا يتأتى للقارئ أن ينطقها كما هي مهما كانت ثقافته وبلاغته إلا إذا تلقنها من في الحافظ لكتاب الله .
    والنقول متواترة من مقرئ لآخر إلى أن نصل في العد التصاعدي إلى التابعين ثم إلى الصحابة الكرام ، ثم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ثم إلى جبريل ـ عليه السلام ـ ثم إلى اللوح المحفوظ { هو قرآن مجيد . في لوح محفوظ } [ البروج :21، 22] { لا تحرك به لسانك لتعجل به . إن علينا جمعه وقرآنه . فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } [ القيامة :16 ـ 18] وذي إحدى معجزات القرآن الكريم الخالدة بخلوده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ولله در علماء الأمة وسلفها ـ ورضى الله عنهم ـ حينما احتاطوا في حفظ كتاب الله تعالى ، ومن جملة تدابيرهم ما نص عليه الشيخ خليل ـ رحمة الله عليه ـ في مصنفه في فصل سجود التلاوة : وفي كره قراءة الجماعة على الواحد روايتان .
    وجاء في الشرح الكبير لأبي البركات أحمد الدرديري قوله :
    وفي كره قراءة الجماعة مجتمعين (علي ) الشيخ (الواحد) مخافة . . التخليط وجوازها (روايتان ) عن الإمام .
    وفي حشيته قال الدسوقي : قوله : (قراءة الجماعة ) المراد بها : ما زاد على الواحد قوله : (مخافة التخليط ) أي : ولأنه لابد أن يفوت الشيخ سماع ما يقرؤه بعضهم حين الإصغاء لغيره فقد يخطئ القارئ الذي لم يصغ الشيخ لقراءته في ذلك الحين ، ويظن ذلك القارئ أن الشيخ سمعه فيحمل عنه الخطأ ويظنه مذهبا له .
    قوله : ( وجوازها ) أي : للمشقة الداخلة على القراء بانفراد كل واحد بالقراءة عليه إذ قد يكثرون فلا يعمهم فجمعهم أحسن من القطع لبعضهم .
    قوله : (روايتان عن الإمام ) أي : فكان أولا يكره ذلك ولا يراه صوابا ثم رجع وخففه ، فإن قلت : حيث رجع عن الكراهة فالمعمول به الجواز ، فكان الأولى للمنصف الاقتصار عليه ؛ لأن الكراهة مرجوع عنها فلا تنسب لقائلها ، وأجيب بأن قواعد المذهب لما كانت تقتضيها صح نسبتها للإمام وإن رجع عنها .
    قال شيخنا العدوي : والظاهر من الروايتين الكراهة ؛ لأن كلام الله ينبغي مزيد الاحتياط فيه ، ومحل الخلاف إذا كان في إفراد كل قارئ بالقراءة مشقة فإن انتفت المشقة فالكراهة اتفاقا (79).
    القانونية : ـ
    " من نفس . . . . نفس الله عنه ، ومن ستر . . . ستر الله . . . ومن يسر على معسر يسر الله عليه . . . . " .
    أولا : جاء هذا الحديث يقرر قاعدة ذهبية في الشريعة الإسلامية ألا وهي : الجزاء من جنس العمل . قال تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره . ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } [الزلزلة :7 ، 8 ] ، { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } [ الرحمن :60] . هذه القاعدة الجليلة تنطبق أول ما تنطبق على علاقة المخلوق بالخالق ـ سبحانه وتعالى ـ اليذي صور الإنسان في أحسن صورة وجمله ، وأنعم عليه وتعهده وسخر له آلاءه ، وأمده بما لا قبل له به من الحمد والثناء.
    ثم لا يلبث أن يقف على قدميه فيجاهر بالعصيان ويقابل ربه المتفضل عليه بالجحود والنكران .
    إنه بشكره وحمده وإن ظل طوال حياته لن يجازي ربه ـ حاشا لله ـ وأني للعبد المملوك من أملاك حتى يجازي بها ؟ !
    ولكنه على الأقل يعترف بالجميل ومن ثم لا يظلم الحقيقة : { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم . الذي خلقك فسواك فعدلك . في أي صورة ما شاء ركبك } [ الانفطار :6ـ8] ، {فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون } [ الزمر :49] .
    وتنطبق هذه القاعدة كذلك على علاقة المخلوق بالمخلوق وما ينبثق عنها من جزاء في الدنيا أمام القضاء الإسلامي والعرف الاجتماعي ، وفي الآخرة أمام الحاكم الأعلى ـ عز وجل ؛ لأن الإسلام لا يغمط الحقوق ، ولا ينكر لذوي الجهود الطيبة والبر والإحسان ؛ لأن الذي لا يحمد الناس لا يحمد الله ، وعليه فليس من المنطق السليم ولا من المنهج القويم أن نجازي المحسنين جزاء سنمار ، ولا يستسيغ عاقل تطبيق ذلك ناهيك عن شريعة العدل السمحة .
    فهل يستقيم أن نقلد الخونة ومن ثبتت مقاتلتهم لأهل الإسلام مع أعدائهم ، أو من أدينوا بالجرائم الموبقة ، وتلبسوا بالكبائر المهلكة ، قلت : أيستقيم أن نقلدهم المناصب العالية في الأمة والأرائك المرتفعة !
    أفلا يكون من جنون (80) الجنون أن نكرم اللصوص الكبار ونتعقب أرباب الأموال باللوم والتقريع ؛ لأنهم لم يحفظوا أموالهم في البنوك الربوية (81) . . إلخ .
    وقد جاءت نصوص كثيرة تقرر تلك القاعدة السالفة : منها قوله صلى الله عليه وسلم : "إنما يرحم الله من عباده الرحماء " ، وقوله : "إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا".
    وأخرج الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا : "أيما مؤمن أطعم مؤمنا على جوع أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة ، وأيما مؤمن سقى مؤمنا على ظمأ سقاه الله يوم القيامة من الرحيم المختوم ، وأيما مؤمن كسا مؤمنا على عرى كساه الله من خضر الجنة".
    وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن ابن مسعود قال : يحشر الناس يوم القيامة أعرى ما كانوا قط ، وأجوع ما كانوا قط ، وأظمأ ما كانوا قط ، وأنصب ما كانوا قط ، فمن كسا لله كساه الله ، ومن أطعم لله أطعمه الله ، ومن سقى لله سقاه الله ، ومن عفى لله أعفاه الله " .
    ثانيا : " من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة " . حد الإسلام حدودا كسرا لشوكة الظالمين ، وردعا لأهل الشر والمفسدين وإقامة للعدل ، وحفظا للأرواح ، والأموال والأعراض ، وصدق الله العظم إذ يقول : { ولكم في القصاص حياة } [ البقرة :179] { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } [ المائدة :32] .
    ومن أجل ذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على إقامة هذا الواجب الأساسي في التشريع الإسلامي ، فعن أبي هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لحد يقام في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا ثلاثين صباحا ".
    وما دام الحديث على العفو والستر ، فإننا سنتناول إقامة الحدود من هذا الجانب ، وعليه فهل تنفع الشفاعة فيمن أصاب حدا من حدود الله ؟ والجواب يحتم علينا استعراض الخلاف الفقهي بين الأئمة ـ رحمة الله عليهم ـ في هذا الشأن ، واختلافهم لا يدور حول ما بلغ للسلطان وما لم يبلغ بل في حال المذنب نفسه .
    قال أبو عمرو بن عبد البر : لا أعلم خلافا أن الشفاعة في ذوي الذنوب حسنة جميلة ما لم تبلغ السلطان ، وأن على السلطان أن يقيمها إذا بلغته .
    وذكر الخطابي وغيره عن مالك أنه فرق بين من عرف بأذى الناس ومن لم يعرف . فقال : لا يشفع للأول مطلقا سواء بلغ الإمام أم لا ، وأما من لم يعرف بذلك فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام ، وتمسك بحديث الباب من أوجب إقامة الحد على القاذف إذا بلغ الإمام ، ولو عفا المقذوف وهو قول الحنيفة والثوري والأوزاعي ، وقال مالك والشافعي وأبو يوسف : يجوز العفو مطلقا ، ويدرأ بذلك الحد ؛ لأن الإمام لو وجده بعد عفو المقذوف لجاز أن يقيم البينة بصدق القاذف فكانت تلك شبهة قوية (82) .
    الاقتصادية : ـ
    1ـ إن التباعد الكبير والفرق الشاسع بين الاقتصاد الإسلامي ، والاقتصاد في النظم المختلفة الرأسمالية والشيوعية لا يتجلى في الأبعاد والأهداف التي يسعى كل إلى تحقيقها بل وفي المنطلقات الأساسية الأولى ـ وهذا هو الأصل ـ حيث يعتبر المال في النظام الاقتصادي الإسلامي ليس هو المتحكم في قوانين التعامل المادي ، بل يقوم التعامل على الأخلاق وهي ما يشار إليها في الأحاديث النبوية بالصدق ، والأخلاق ، والسماحة ، والرحمة ، كما أنه لا يعتبر رأس المال وسيلة للربح المادي والثراء المالي مثلما تنظر إليه النظم الأخرى بشعارها : دعه يعمل دعه يربح ، بل يعتبره وسيلة للربحين المادي المعجل ، والأخروي المؤجل ، ووسيلة لتنفيذ إرادة الله على حد سواء ؛ لذا حث الإسلام على القرض واعتبره من قبيل التيسير على المعسر الذي ورد فيه قوله تعالى : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون } [ البقرة :28].
    والقرض في النظام الاقتصادي الإسلامي مخالف لجميع أنواع القروض في جميع النظم الأخرى ؛ لأنه بلا مقابل مادي ، بل حرم الإسلام أن يجلب السلف أدنى منفعة في حين أن القرض في الاقتصاد العالمي اليوم يقوم أساسا على الفوائد الربوية ، وهذه العملية لم تستجد فيها الشيوعية أو الرأسمالية شيئا بل هي امتداد للنظام الربوي الجاهلي الذي كان سائدا قبل الإسلام في المجتمعات الجاهلية .
    عن عبد الله بن أبي ربيعة رضى الله عنه قال : استقرض مني رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين ألفا فجاءه مال فدفعه إلى وقال : "بارك الله في أهلك ومالك إنما جزاء السلف الحمد والأداء " (83).
    وجاء أيضا في فضل القرض عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرة إلا كان كصدقتها مرتين " (84).
    وعن البراء بن عازب ـ رضى الله عنهما ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من منح منيحة لبن ، أو ورق ، أو هدى زقاقا كان له مثل عتق رقبة "(85).
    ولضمان أموال الدائنين نظم الاقتصاد الإسلامي عملية الاستدانة والتوثيق والإشهاد وبالتحذير من المماطلة وعدم التسديد ، قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا } [ البقرة :282] .
    وعن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "مطل الغني ظلم" (86) . وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه بها عبد بعد الكبائر التي نهى الله عنها أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء"(87).
    وعن جابر رضى الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي على رجل مات وعليه دين فأتى بميت فقال : "أعليه دين ؟ " قالوا : نعم ديناران ، قال : "صلوا على صاحبكم " ، قال أبو قتادة : هما على يا رسول الله فصلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما فتح الله على رسوله قال : " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فمن ترك دينا فعلى قضاؤه ومن ترك ما لا فلورثته " (88).
    2ـ كما أن الإسلام في تشريعه الاقتصادي عمل على تحرير الفقراء من ربقة الاستغلال والاستعباد ، فحرم استغلال حاجة المعوز واستنزاف طاقته وجهده واغتنام أرباب الأموال لساعات ذله واستدانته منهم حتى يفرضوا عليه شروطهم الربوية مقابل أيام الدين ، فتربوا ثرواتهم وتتضخم عائدات قروضهم ، وهم على فرش بطائنها من استبرق على حساب المسكين المستدين .
    فقه الدعوة
    ـ
    1ـ إن القاصرين في الفهم قصروا كلمة العلم على فهم الشريعة الإسلامية مثلما قيدوا مصطلح الفقه على أحكام العبادات والمعاملات ، وهم بهذا التضييق والتخصيص جنوا جناية كبرى على الأمة الإسلامية ، وضربوا عليها حصارا شديدا كبل معارفها وجمح أذهان أبنائها وعقولهم . . . وظلت ترزح تحت الجهل بحقائق الكون وسنن الحياة طيلة هذه القرون المتأخرة . . . في حين نشطت حركة التأليف وإعادة التأليف في الأحكام الفقهية وأعني بإعادة التأليف أي نظم أمهات الكتب ، وجمع بعضها ، وفصل البعض الآخر أي أن الحركة في حلقة مفرغة.
    وتعطلت الجهود ، وأجهضت الطاقات الفكرية التي عرف بها علماء الموسوعات في العصر الذهبي للحياة الثقافية في الإسلام ، بل وأهملت البحوث والأمهات العلمية والمراجع الثقافية في زمن حرم أهله ـ علم الكيمياء والمنطق ـ وأداروا ظهورهم لابن النفيس ، والحسن ابن الهيثم ، وابن سينا ، والفارابي ، وابن خلدون وكأنهم لم يمروا يوما على قوله تعالى : {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } [ الأنفال :60] ، { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس } [ الحديد :25] ، { حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا . قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا . قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما . آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا .فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا } [ الكهف : 93 ـ 97] .
    والحقيقة أن لفظة العلم التي وردت في الحديث : " يلتمس فيه علما " جاءت هكذا نكرة ، والنكرة تفيد العموم .
    ولكن ـ ويا أسفاه ـ الذين جنوا على ماضي الأمة القريب ظلوا في فهمهم الخاطئ يعمهون ، وحسبوا خطأ أن الدعوة لا تستقيم إلا بفهم الشريعة الإسلامية خاصة ، وأنه لا شأن له بالطب ولا بالهندسة ولا بالمعطيات التكنولوجية الحديثة .
    لذا تزايد الأطباء والمهندسون المسيحيون في مصر في أواسط هذا القرن . . . . بينما يتوجه المسلمون إلى الأزهر الشريف وإلى معاهد اللغة العربية والعلوم الاجتماعية .
    2ـ إذا كانت العلوم الشرعية تهدي صاحبها سبيل الجنة ؛ لأنها تعرفه الحلال من الحرام ، والفرض من السنة ، و . . و . . فإن العلوم الأخرى ـ النظرية والتطبيقية ـ تزيد في إيمان المؤمن واطمئنانه ، ولله در شيخ الأنبياء عليه الصلاة والسلام حين سأل ربه فقال : { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم } [ البقرة :260] . كما ترى الباحث آيات الله الكبرى ، وتوقفه
    العليا وتجعله يلمس الدقة غير المتناهية في الخلق والإبداع ، والنظام البديع هنالك تقف جميع القوى أمام التحدي الإلهي ، فيقر من شرح الله صدره بعظمة الخالق ووحدانيته وهذا مصير الكثير من علماء الغرب اليوم الذين اهتدوا بهدى الله سبحانه وتعالى : { الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور . ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير } [ الملك :3 ، 4 ] .
    وجدوى هؤلاء ـ إن فقهوا الدين الجديد بالنسبة للدعوة في أوساط بني جلدتهم ومواطنيهم ـ أكثر بكثير من دعوة داع لا يملك غير فهم أحكام بعض العبادات من سلاح.
    3ـ يعتقد الكثير من طلبتنا أن جهودهم لا طائل من ورائها للدعوة الإسلامية ، ومن ثم يهملون البحث العلمي ، ويعكفون على البحث في آراء الأشاعرة والمعتزلة ويزجون أنفسهم في متاهات الخلاف في تحديد مفهوم ما . . . كالقضاء والقدر . . . والتنفل فيه صلاة المغرب ، وطول الجلباب ـ والكولونيا . . والقبض والسدل . . وغير ذلك ، ولا يعلمون أنهم بذلك يحققون مآرب أعداء هذا الدين بقعودهم عن العمل واهتمامهم بالجدل.
    بل وضررهم في تضييع هذه الفروض الكفائية أشد من المتربصين بالإسلام ؛ لأنهم يكرسون أغلوطة طالما حاول الغربيون الذين كابدوها أن يصمونا بها . . . ألا وهي عداوة الدين للعلم !
    تطبيق
    ـ
    1ـ قال صلى الله عليه وسلم : " من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا " ، وفي رواية : "من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا " .
    بعض ضعاف الإيمان اليوم يسعون حين تنزل بساحاتهم الكرب وتحل بهم ضائقة إلى:
    أ ـ تعليق التمائم والحروز مستعيذين بها مستعينين ، تاركين الاستعانة من الذين بيده كل شئ قال تعالى : { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده } [ يونس :107] .
    { وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين . فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين }[ الأنبياء :83 ، 84].
    وقال تعالى حاكيا عن إبراهيم : { الذي خلقني فهو يهدين . والذي هو يطعمني ويسقين. وإذا مرضت فهو يشفين . والذي يميتني ثم يحيين . والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } [ الشعراء :78 ـ 82 ] .
    وهذا عبد الله بن مسعود يصحح عقيدة أهله ، فعن ابن مسعود رضى الله عنه أنه دخل على امرأته وفي عنقها شئ معقود فجذبه فقطعه ثم قال : لقد أصبح آل عبد الله أغنياء عن أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الرقى والتمائم ، والتولة شرك " قالوا : يا أبا عبد الرحمن هذه الرقى والتمائم قد عرفناهما فما التولة ؟ قال : شئ تصنعه النساء يتحببن إلى أزواجهن (89) .
    وعن عقبة بن عامر رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من علق تميمة فلا أتم الله له ، ومن علق ودعة فلا ودع الله له " (90).
    والتميمة هي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يتقون بها العين كما يدعون .
    ب ـ أو ربما استغاثوا بولي أو قبر عسى أن يفرج عنهم ، وييسر عسرهم ، وينذرون له النذر ويذبحون . . و . .
    2ـ التفريج مثلما يكون بالمال يكون أيضا بالجاه والنفوذ ، بينما نجد العالم الإسلامي اليوم لا يحرك ساكنا ، ولا يبذل جهدا في التنفيس على الأقليات الإسلامية في العالم ، والتي آلت أوضاعها المزرية وأحوالها المتردية إلى مصير مجهول وسبيل مسدود ، فهذه جهود البلغرة قائمة على قدم وساق . . . وهذه محاولات التعقيم والتهويد في فلسطين . . . والتنصير والتشريد في أفريقيا وأندونيسيا . . . وهلم جرا ، فهل كنا مع هؤلاء حتى ننتظر أن يكون النصر حليفنا . " . . والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" .
    3ـ " وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله " .
    إن للمسجد في الإسلام مكانة عظمى ورسالة كبرى إذ هو مصنع الرجال ومحل العبادة ، ومهد الحضارة الإسلامية ، وهو الثكنة العسكرية والمدرسة الجامعية ، ولخطورة أدواره كان المسجد أول عمل يقوم به رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهجره .
    والمسجد فوق هذا دار عبادة وتلاوة تحقيقا لأمر الحق سبحانه : { وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود } [ الحج : 21] { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه } [ النور : 36] .
    للكن مصيبة الإسلام اليوم في المسجد المهمش عظيمة ، حيث تبارى الناس في تشييد المساجد وزخرفتها وتعدد مداخلها ومآذنها ومكبرات الصوت المعلقة فيها ، ومصابيحها ، وملحقاتها ؛ ولكنها رغم شموخها ظلت خاوية إلا من بعض المصلين ، وأضحت كثير من المساجد العتيقة ـ التي صقلت في أرجائها المواهب ، وانطلقت من ساحاتها نجوم الهدى ، ومصابيح العلم والإيمان اليوم ـ معلما من المعالم الأثرية التي تجوبها القوافل الغربية السياحية ، والواقع على ما أقول شهيد .
    4ـ من العجب العجاب ، والأهوال التي تشيب الغراب ، وتدهش ذوي الألباب أن أقواما من أهل الإسلام اليوم يعتقدون أن عمارة المسجد لا تتم إلا بالموائد والثرائد ، وإن كانت بلا فوائد ، ناسين أو جاهلين أن المساجد بنيت لما بنيت له ، وأنه لو كانت العمارة بمثل ذلك فمن يطعم الحجاج ، وينفق على العمار أثناء الزيارة للبيت الحرام ؟ ! وهل للطعام (91) . هو وحده الذي تحن إليه القلوب وتتشوق النفوس وتنشط الأرواح والجوارح ؟ فأين هؤلاء إذا من قول الحق سبحانه وتعالى : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة } [ التوبة : 18] .
    وفي مثل أولئك قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو هريرة رضى الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ناسا في بعض الصلوات فقال : " لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها فآمر بهم فيحرقوا عليهم بحزم الحطب بيوتهم ، ولو علم أحدهم أنه يجد عظما سمينا لشهدها " ـ يعني العشاء (92).
    5ـ "يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم " .
    لتلاوة القرآن الكريم آداب سبق وأن تعرضنا لبعضها في مقامها ، ولكن بالمقابل نجد أن هذه الآداب لا تراعى في كثير من الأحوال ، فقارئ القرآن بلا ترتيل أو تدبر أنى له أن يعي شيئا مما يقول ، لأن الهذرمة تؤدي إلى خلط كلماته ، وتداخل حروفه ، وتذهب بحلاوته ، وتمنع من بقاء أثره في النفس .
    بيد أن بعض القراء وأئمة التراويح يتبارون ويتسابقون ، ويفتخر أهل هذا المسجد على ذلك بسرعة قارئهم وخفته وعدم استغراقه لثلث الساعة في التراويح في رمضان .
    6ـ يعتمد البعض على هذا الحديث وعلى أحاديث أخرى أوردناها في مظانها في التحلق للذكر وقراءة أوراد معينة ثم ينتحلون صفة أخرى وهي التموج والتمايل ، وهز البطون ودق الطبول وهو ما يسمى عند البعض بـ (الحضرة ). { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } [ الأنفال :35] .
    7ـ "ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة " . سلكت البعثات العلمية من العالم الإسلامي والعربي منه على الخصوص طرقا عديدة تلتمس فيها مفاتيح العلم ، وأسرار التكنولوجيا ، وذلك بتموين ورعاية من بلدانها الأصلية أي بعرق أبناء أمتها ومن خالص أموالها العامة التي اقتطعتها من أرزاقها ، وهي تنتظر عودة هذه الكوكبة لتؤمن لها إدارة معاملها وتحريك دواليب مصانعها ، ولتخرجها من العدو الثلاثي المقيت : (الفقر ، الجهل ، الجوع ) .
    ولكن طائفة من هذه البعثات خيبت آمال الأمة فتنمرت لأبناء دينها ، وردت ها صنيعها مثلما قيل : جزاء سنمار . . . وسهل لها تكوينها ودراستها طريق لا إلى الجنة وإلى استرداد عزة الأمة الإسلامية وهيبتها بإعدادها ما أمرها ربها به { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } [الأنفال :60] .
    بل إلى خليلة أوربية لتسوية أوضاعه الإدارية وأوراقه الثبوتية ثم إلى المصانع الغربية والمعامل الأوربية ، وقد انهزم الكثير من أبنائنا أمام هذه المغريات ، وخارت قواه المعنوية أمام البهرجة المزيفة . ومن ثم خسرت أمتهم خسارتين .
    الخسارة الأولى : الخسارة المادية بنفقاتها وأموالها ، والثانية : بتملص هذه الطاقات من أيديها ، بدلا من أن يحلوا محل الأيدي الفنية الأجنبية التي ثبتت خطورتها .
    8ـ " ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه " .
    يصدق هذا في المجتمع الإسلامي المنشود الذي يحكم المنهج القرآني ، ويتحقق بلا ريب أيضا ساعة العرض على الديان عز وجل : { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } [المؤمنون :101] { يوم يفر المرء من أخيه . وأمه وأبيه . وصاحبته وبنيه } [عبس:34 ـ36] .
    ولكنه في واقعنا المتمرد عن أحكام الله من قبيل الثلاثة التي لا وجود لها كما يقول الشاعر :
    ثلاثة ليس لهن وجود 00 الغول والعنقاء والخل الودود
    فكم من طلاب بطأت بهم جهودهم ، وأسرعت بهم أنسابهم ، وإلا فهل من الصدفة أن يكون النجاح دوما حليف أبناء الذين لا يخفضون بأدوات الجر كلها . . . وكم من إداريين . . . ووزراء . . . وأمراء فلا حول ولا قوة إلا بالله الذي بيده تغيير الحال والمآل .

    ****


    المراجع والهوامش
    ـ
    1ـ نفس : أزال وكشف ، وأصل النفيس : فك خناق المخنوق حتى يأخذ نفسه بعد أن أشرف على الهلاك .
    كربة : الشدة العظيمة .
    ستر : بحيث لم يفضحه في عوراته الحسية والمعنوية .
    سلك طريقا : حسيا بأن ولى وجهته دور العلم ، وحج مجالسه ومواطن أهله، أو معنويا : بأن اتبع مناهج المذاكرة وسبل التحصيل.
    علما : علما دينيا أو ما ينفع الناس في أمور معاشهم المختلفة .
    السكينة : الطمأنينة والوقار.
    غشيتهم : عمتهم وشملتهم من جميع الجهات.
    ذكرهم الله : أثنى عليهم في الملأ الأعلى .
    من بطأ به عمله : من أخره عمله عن الوصول إلى درجات الصالحين.
    2ـ رواه البخاري ومسلم .
    3ـ رواه البخاري .
    4ـ الميارة الكبرى.
    5ـ الميارة الصغرى.
    6ـ رواه الترمذي .
    7ـ رواه أبو داود .
    8ـ رواه أحمد .
    9ـ رواه البخاري ومسلم .
    10ـ رواه أحمد ، والإمام مسلم .
    11ـ أخرجه البخاري ، ومسلم وابن ماجه .
    12ـ حزن : ما غلظ من الأرض .
    13ـ سهوة : أرض لينة ملائمة .
    14ـ رواه أحمد .
    15ـ بداية المجتهد 1/232.
    16ـ ولاء : صحبة ومودة ، ولكن بينهما خلاف وشقاق ، وهو حريص على إيقاع الأخوة.
    17ـ رسول الله عليه الصلاة والسلام.
    18ـ رواه البخاري ، ومسلم .
    19ـ رواه البخاري ، ومسلم .
    20ـ رواه الترمذي .
    21ـ رواه البخاري ، ومسلم ، والنسائي ، وابن ماجه .
    22ـ رواه الترمذي .
    23ـ رواه الحاكم .
    24ـ رواه أبو داود ، والترمذي وغيرهما .
    25ـ الهذرمة : هي السرعة في القراءة والكلام .
    26ـ رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه .
    27ـ رواه أبو داود .
    28ـ مختصر منهاج القاصدين ، لابن قدامة المقدسي ص 46.
    29ـ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/26.
    30ـ دليل الفالحين 3/102.
    31ـ ( بن ) هو مختصر لاسم العلامة : محمد البناني محشي الشيخ عبد الباقي الزرقاني
    32ـ حاشية الدسوقي 1/308 ، مج 1
    33ـ فتح الباري 9/74.
    34ـ جامع العلوم والحكم ص 325.
    35ـ الترغيب والترهيب 2/391.
    36ـ التاج الجامع للأصول 1/340 ، ط : دار الفكر .
    37ـ حاشية الدسوقي 1/423.
    38ـ رواه البخاري ، ومسلم وغيرهما .
    39ـ رواه أبو داود ، والنسائي ، وأحمد ،وابن ماجه وصححه .
    40ـ رواه مسلم ، والترمذي ، وابن ماجه ، والنسائي .
    41ـ رواه أبو داود .
    42ـ رواه مسلم .
    43ـ رواه مسلم .
    44ـ رواه أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي.
    45ـ رواه أبو داود ، وأحمد ، والنسائي.
    46ـ حاشية الدسوقي على الدرديري 2/423.
    47ـ نعم قد لا ينطبق هذا على كثير من القراء .
    48ـ قد يبدوا التعارض أيضا بين هذا التعليل وبين تداوي النبي صلى الله عليه وسلم واسترقائه وأمره بهما ، ولكن كان ذلك منه لبيان الجواز والتشريع لأمته .
    49ـ رواه البخاري ومسلم .
    50ـ رواه البخاري ، ومسلم وغيرهما .
    51ـ رواه ابن ماجه ، والترمذي .
    52ـ أي يقوم بإصلاح أرضه .
    53ـ أخرجه أبو داود .
    54ـ أخرجه الإمام أحمد ، وأبو داود .
    55ـ أخرجه أبو داود ، والنسائي .
    56ـ رواه أبو داود ، والنسائي .
    57ـ جامع العلوم والحكم ص 321.
    58ـ رواه البخاري ، ومسلم .
    59ـ أنبط العلم : أطلبه وأستخرجه.
    60ـ رواه الترمذي وصححه .
    61ـ رواه الطبراني في الكبير .
    62ـ رواه الترمذي .
    63ـ رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، وابن حبان في صحيحه ، وليس عندهم : "موت العالم . . . " إلى آخره .
    64ـ رواهما أبو داود وابن ماجه.
    65ـ رواهما أبو داود وابن ماجه.
    66ـ التدريس.
    67ـ جاء هذا في مختصر منهاج القاصدين ص 14 .
    68ـ رواه الطبراني في الأوسط .
    69ـ جاء هذا في المختصر.
    70ـ أخرجه البخاري .
    71ـ رواه البخاري ، وأبو داود .
    72ـ رواه الشيخان .
    73ـ رواه البخاري ، ومسلم .
    74ـ رواه الشيخان ، والترمذي .
    75ـ رواه أبو داود ، وابن ماجه .
    76ـ رواه الترمذي ، وابن ماجه .
    77ـ رواه أبو داود ، والترمذي .
    78ـ رواه الشيخان .
    79ـ حاشية الدسوقي 1/309 .
    80ـ أشير بهذا إلى قول الشافعي ـ رحمه الله ـ : جنونك مجنون ولست بواجد.
    81ـ هذه حقيقة واقعية وقعت للوالد "الشيخ عبد الحميد تاتاي " سنة 1985م بمحكمة باتنة بالجزائر ، حيث ترك القاضي الجائر السارق المحتال طليقا ، وراح يلوم الوالد ومن معه على عدم إيداعهم أموالهم المسروقة بالبنوك الربوية . فانظر إلى ذلك المنطق المقلوب والعدل الموؤود.
    82ـ الترغيب والترهيب 3/247.
    83ـ رواه النسائي .
    84ـ رواه ابن ماجه ، وابن حبان في صحيحه ، والبيهقي مرفوعا وموقوفا .
    85ـ رواه أحمد ، والترمذي .
    86ـ رواه البخاري ، ومسلم .
    87ـ رواه أبو داود .
    88ـ رواه البخاري ، ومسلم .
    89ـ رواه ابن حبان في صحيحه ، والحاكم باختصار عنه ، وقال : "صحيح الإسناد".
    90ـ رواه أحمد .
    91ـ المراد به الكسكس الذي اشتهر به منطقة المغرب العربي .
    92ـ رواه البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي

    >>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
    ==================================






    يارك الله فيكى

    وياريت لو سمحتى تراعى طول الموضوع وحجم الخط حتى يتسنى للاخوات قراءته

    وياريت لو كان الموضوع بهذا الطول يستحسن ان يتم انزاله على صفحتين



    __________________________________________________ __________


    __________________________________________________ __________


    __________________________________________________ __________


    __________________________________________________ __________





يعمل...
X